على «وجه» الخطاب كنا نكتب «شكراً لساعى البريد».. على «ظهر» الخطاب كنا نكتب «شكراً لساعى البريد».. وكان الأكثر فصاحة وذكاء يكتب «شكراً لساعى البريد هنا وهناك».. هنا فى هذا المكان الذى أرسلت منه كلماتك.. وعباراتك.. وحكاويك.. وقصصك.. وسردك.. وشكواك.. «ساعى البريد».. هو هذا الشخص الذى يرتدى «بدلة رسمية».. ويحمل حقيبة جلدية.. تكون منتفخة بـ«الجوابات».. يتجول سيراً على الأقدام فى بيوت وشوارع قرى مصر الطيبة فى جنوبها وشمالها.. وكان قديماً يستخدم «الحمار» كوسيلة للتنقل.. وتطور الأمر فيما بعد وصارت «الدراجة الهوائية» بديلة للحمار.. هذا الرجل صاحب وجه معروف.. وهيئة ترتسم دوماً فى أذهان الجميع. يمر فى الشوارع.. ويتوقف عند المنزل المقصود: «جالكم جواب».. ويسحب القلم الذى وضعه بإحكام أعلى أذنه أو فى حقيبته ويكتب ما يفيد أن الرسالة تم تسليمها.. قد يكون أحياناً صاحب «بشرة خير»، وتحديداً فى رسائل تحمل بداخلها «شيكاً» من ابن أو أخ يعمل خارج البلاد.. وهنا يرفع المتلقى الخطاب فى «عين الشمس».. بعده تظهر الابتسامة وتتبعها كلمة «ليك الحلاوة والله».
ناقل الكلام "رفيق الأيام الحلوة"
تغيرت الصورة تماماً.. وصار الإنترنت أكثر سرعة وقوة وحضوراً من هذه الكلمات «المدسوسة» داخل خطاب.. أصبحت مواقع التواصل الاجتماعى الأكثر تأثيراً حيث تجعل «البشر» المقيمين أقصى العالم غرباً أو شرقاً.. شمالاً أو جنوباً جميعاً إلى جوارك.. وقد تراهم لحظة التحدث عبر «الفيديو».. ولكن هذا القرب وهذا الفيديو لا يمكن مقارنته بـ«لهفة» انتظار «جواب».. ولا بـ«شوق» الغوص فى كلماته.. ولا محاولات فك طلاسمه إذا كان الخط رديئاً.. ولا أجمل من رحلة البحث عمن يقرأ ويطمئنك. أوشكت «بدلاتهم الرسمية» على الاختفاء وصارت «حقائبهم الجلدية» أقرب لأن تكون ماضياً.. وأصبحت الشوارع «خالية» من خطواتهم وهم يتنقلون محمَّلين بالرسائل.. من عنوان إلى عنوان.. ومن منطقة إلى أخرى.. وظهر جيل جديد.. أفراده لم يروا ولم يسمعوا بـ«ساعى البريد».. هكذا الحياة.. ويبقى هذا الرجل الذى ظهر فى حارات وقرى مصر.. ولم يهزمه طول السكك ولم تغلبه شمسها العفية ولا بردها القاسى.. وظل يمارس مهنته.. ويطالع كل خطاب ويبتسم عندما يقراً.. «شكراً ساعى البريد».
تعليقات الفيسبوك