على يمين مدخل الشارع الممتد بطول سوق الناصرية الشهير بالقاهرة، يجلس سبعيني في محل ورثه عن أبيه، يداه الممتلئتان بالتجاعيد حفظت جيدا كيف تخزل عيدان «الخيزران أو البامبو»، يشد وثاقها جيدا بحرفة كما يخط الفنان ملامح لوحة مرسومة بريشته، كلما مر عليه أحد يلقي عليه التحية بينما هو غارق في عالمه الذي لا يعرف أسراره إلا هو، حتى يفرغ بعد ساعات طوال، من إتمام الطبقات الست لمقعد كرسي خشبي سداسي الشكل بما يشبه خلية النحل، حرفة ورثها عن أبيه وأحبها وأبى أن يتركها رغم متاعبها وندرة خاماتها.
فن الكانيه.. أثاث على الطراز الأوروبي الشرقي
لا يخل كثير من منازل حي الناصرية الشعبي من لمسة فن «عم نبيل» بأثاث منسوج من حرفة «الكانيه» اليدوية أوروبية الأصل، والمصنوع من عيدان «البامبو»، تتداخل فيه الأخشاب بتصميم شرقي تمتزج فيه الثقافات، يجمع للزبون الإحساس بالراحة والأناقة معاً، فضل العجوز البالغ من العمر 73 عاما، تلك المهنة عن المحاماة التي درسها في مرحلة التعليم الجامعي: «اتعلمتها من أبويا وحبيتها، وعمري كله من العشرينات وأنا شغال فيها ومليش صنعة غيرها»، بصوت خافت قالها أحد مشايخ حرفة «الكنايه» في بداية حديثه لـ«الوطن»، وقد أحاطت به أكوام البامبو غارقاً بينها يسابق الزمن لتسليم طلبات زبائنه.
«عم نبيل» ورث المهنة والمحل عن والده ورفض العمل بالمحاماة
«حرفتنا دي صنعة نظر وعايزة صبر»، هكذا يصف «عم نبيل» فن الكانيه ذات الطراز الأوروبي الشرقي، كما علمه والده، حيث تحتاج الحرفة إلى تركيز شديد لتنسيق وتداخل الغرز المتداخلة حتى يكتمل الشكل في النهاية بين عيدان البامبو أو الخيزران: «الشكل الجمالي مهم جدا والراحة والمتانة كمان لازم نراعيهم ولو في غرزة مش في مكانها بتأثر على شكل قطعة الأثاث كلها»، بحسب تعبيره.
حبه لـ«الكانيه» دفعه إلى توصية أبنائه بالحفاظ على استمرارية الصنعة بعد وفاته كي تظل باقية ولا تندثر، لكنهم امتهنوا وظائف إدارية ولم ييأس «عم نبيل» من العمل بمفرده: «وصيت ولادي المحل يفضل مفتوح حتى لو هيشغلوا فيه حد من الصنايعية في المهنة اللي نعرفهم»، فهو يرى فيها فن من الزمن الجميل وأثر آبائه وأجداده ولايزال بعض الزبائن يقدرون قيمتها الفنية.
ندرة المادة الخام «البامبو» تزيد مصاعب المهنة
ندرة المواد الخام المتمثلة في «عيدان الخيزران أو البامبو» لم تثنيه عن إتقانه الشديد للعمل، على الرّغم من صعوبته، حيث يتضمن ست مراحل من نسج الفراغات بغرز مماثلة الحجم حتى يكتمل المشهد، لم يعد «عم نبيل» قادرًا على توفير كميات كبيرة منه كما كان الحال قبل أكثر من 20 عاما: «التاجر معندوش المادة الخام رغم إن لسه في ناس زيي متمسكة بالحرفة دي»، وناشد المسؤولين بتوفير المادة الخام حتى تستمر الحرفة ذات الذوق الرفيع: «الحرفة لسه ليها زبون بس مش عارفين نشتغل كويس من قلة الخامات»، بحسب تعبيره.
تعليقات الفيسبوك