«دكتور الصم».. مبادرة لتعليم الأطباء لغة الإشارة
ارتدى ملابس المدرسة، حمل حقيبته الثقيلة، وغادر المنزل مسرعاً نحو مدرسته، غير ملتفت لهتاف بائع متجول، أو حركة طفل يلهو فى الشارع، فقط يفكر فى كيفية الوصول قبل دق الجرس، وما إن وصل إلى البوابة، وقبل أن يدخل لفت نظره مشهد غير معتاد، طلاب فى مثل عمره يتواصلون بالإشارة وحركات الشفايف غير المفهومة.
اقترب منهم وحاول فهم ما يدور أمامه فلم يفلح، وقتها شعر بالعجز، وأنه المعاق وليس طلاب مدرسة «الصم» المواجهة لمدرسته.
نشأ عبدالرحمن جمال فى أسرة ليس بها أصم، لكنه قرر تعلم لغة الإشارة، فلا ينسى انبهاره بمترجم الإشارة، حيث كان يظهر فى نشرة تليفزيونية، ومتابعته لحركات يديه المتسارعتين، المشوار الذى بدأه فى المرحلة الثانوية، التحق بدورة تدريبية تعلم منها بعض الأشياء، ثم اكتسب المزيد بالاحتكاك بـ«الصم» أنفسهم.

وفى يوم ذهب فيه «عبدالرحمن» لتأدية صلاة الجمعة فى مسجد «على بن أبى طالب» بالإسكندرية، ولاحظ وجود مترجم إشارة مصاحب للخطيب، ومن يومها قرّر التعاون معه، وأصبح يترجم خطبة الجمعة لـ«الصم»، كما تطوع لمساعدتهم فى إحدى الجمعيات الخيرية، وقتها دخل الشاب الطموح مجتمع الصم، تعلم لغة الإشارة منهم، وفهم كيف يفكرون.
كبر «عبدالرحمن» والتحق بكلية الصيدلة، ونصحه البعض بالتفرّغ لدراسته، لأنها صعبة وتحتاج إلى التركيز، لكن شغفه الأكبر انتصر، وقرر مواصلة المشوار، واكتشف أن الوعى الطبى لدى «الصم» منحدر: «بدأت أذهب مع الصم للأطباء، واكتشفت مدى معاناتهم فى شرح ما يعانون، للأسف معظمهم إما بيلجأ للفهلوة لشرح ما به للطبيب، الذى لا يجيد لغة الإشارة، أو يستعين بأى شخص متكلم من عائلته ولو طفل، أو يؤجر مترجم إشارة لو كان مقتدراً».

فكرة الاستعانة بمترجم إشارة أو وسيط بين المريض والطبيب ليست عملية ولها مشكلات، لمسها «عبدالرحمن» بالتجربة: «فى مرة ذهبت مع أصم للطبيب لمتابعة حالته الصحية بعد خضوعه لعملية فتق سرى، وفوجئت بالطبيب يسأل المريض لماذا لا يرتدى الحزام الطبى؟ رغم أنه أكد على مترجم الإشارة الذى كان مصاحباً له فى المرة السابقة، ضرورة ارتداء الحزام لمدة شهرين، وللأسف لم يوفّق المترجم وقتها فى شرح المصطلح الطبى، والتأكيد على الأصم بارتداء الحزام، والنتيجة كانت تعرّضه لمشكلات صحية كادت تنتهى بتكرار الجراحة».
كما يتذكر الصيدلى الشاب واقعة أخرى، حين ذهب مع مريض أصم للكشف الطبى على أساس أنه خضع لعملية «الزائدة»، واكتشف من الطبيب أنه خضع لجراحة أخرى، لكن ما وصل للأصم من المترجم أنها «زائدة»، فاقتنع تماماً بذلك.

عدم الدقة فى الشرح والتواصل ليس المشكلة الوحيدة لوجود الوسطاء فى غرف الكشف، فهناك عبء آخر نفسى وحرج يقع على المريض والمترجم، خاصة إن كان غريباً عنه: «أثناء دراستى بالكلية كنت أذهب مع سيدة لكشف النساء والتوليد، وهو أمر كان محرجاً للسيدة ولى، ولكن لم يكن هناك بديل».
«دكتور الصم».. مبادرة لتعليم الأطباء لغة الإشارة
«دكتور الصم» فكرة خطرت ببال «عبدالرحمن» وهو فى السنة الثالثة بالكلية، تحديداً فى 2016، وبدأ تطبيقها فى نواحٍ مختلفة، أولاها تنظيم «كورسات إشارة» فى كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان للطلاب، سواء بالتواصل مع إدارة الكلية أو من خلال الأسر والاتحادات الطلابية، حتى يستطيع الطلاب التواصل مع «الصم» مستقبلاً، وتقديم الخدمة الطبية لهم، ثم قرر رفع الوعى الطبى لـ«الصم»، وتعريفهم بمعلومات أساسية غائبه عنهم، واكتشف وقتها مدى الجهل بمعلومات بديهية وانتشار الخرافات الطبية بينهم.

المترجم الذى يثق فيه الأصم يأخذ منه المعلومة مصدقة دون تفكير، ومن هنا بدأ «عبدالرحمن» ينادى برفع الوعى الطبى لتلك الشريحة من المواطنين، قام بترجمة محاضرات طبية فى مكتبة الإسكندرية، وكتب بنفسه محاضرات طبية وعرضها على «الصم» فى محافظات مختلفة القاهرة والإسكندرية والشرقية، ونشر فيديوهات «أون لاين» ولمس جدوى ذلك على «الصم».
لم يكن الطريق ممهداً أمام «عبدالرحمن» لتحقيق أهدافه، أول عائق اصطدم به كان غريباً، فبمجرد أن نظم دورات تدريبية لطلاب الطب فوجئ برد فعل سلبى من قِبل مترجمى إشارة، فهو الآن يقطع عليهم باب رزق دون سابق إنذار، واكتشف وقتها أن البعض يمارس ترجمة الإشارة كـ«سبوبة» ويستغل إعاقة «الصم» لتحقيق مكاسب مادية.
بعض طلاب الطب تحمسوا لفكرة تعلم لغة الإشارة، وخاضوا دورة تدريبية، لكن الشغف سرعان ما فتر، إما لقلة الاحتكاك بالـ«صم» وإما لمشاغل الحياة، وهى مشكلة أخرى قابلت «عبدالرحمن»، يأتى من بعد ذلك العائق المادى، فإن كانت الرغبة أصيلة داخله فى السفر لمختلف المحافظات، ومساعدة أكبر شريحة من «الصم»، لكن يصعب تدبير التكاليف المادية المترتبة على ذلك دون دعم مادى من الدولة، خاصة أنه رفض أن يدفع المتدربون رسوم «الكورس».
رغم صغر سن «عبدالرحمن»، 24 عاماً، إلا أنه أول طبيب ومترجم إشارة فى الوطن العربى، على حد زعمه، ويحاول حتى الآن مواصلة المشوار، حيث حصل على اعتماد المنظمة العربية لمترجمى الإشارة، كما بدأ يتعلم لغة الإشارة الأمريكية، وفى الوقت نفسه نجح فى تكوين فريق عمل مصغر، قوامه الأطباء والصيادلة الذين قام بتدريبهم، فلا يترددون فى مرافقة مريض خلال الكشف أو مساعدته لغرض طبى.
يتلقى «عبدالرحمن» عشرات المكالمات المرئية يومياً من داخل مصر وخارجها طلباً للمساعدة، ويتذكر فى يوم اتصل به أصم من محافظة بورسعيد، وأخبره بأنه سيأتى له للكشف على ابنته المريضة، ورغم توضيح «عبدالرحمن» أنه صيدلانى وليس طبيباً لتشخيص حالة ابنته، توسل له المتصل، مؤكداً أنه لا أحد يفهمه وينقذ ابنته غيره.
وجود مترجمى إشارة فى المستشفيات حدث على نطاق محدود، وأثبت فشله حسب «عبدالرحمن» لعدة أسباب، أهمها أن غرضه كان ربحياً فى المقام الأول، ومعظم «الصم» من شرائح اجتماعية بسيطة، إلى جانب أن «الصم» أنفسهم يخشون فى كثير من الأحيان البوح بأسرارهم للغرباء، ورغم ذلك يمكن تقبل توفير مترجم إشارة فى كل مستشفى حالياً، لحين تعليم الأطقم الطبية لغة الإشارة، ولا بد أن يتم ذلك بمنهجية وتنظيم ومتابعة، فيجب أن يأخذ الطبيب فترة تدريب كافية حتى يتقن تلك المهارة، فضلاً عن ضرورة وجود شبكة للتواصل مع من تم تدريبيه لتعظيم الفائدة.
تعليقات الفيسبوك