عندما تدور عقارب الساعة، وتنقلب الأحوال وتصبح جميع الحقائق أوهام، ويصبح السن الحقيقة الوحيدة التي لا تحتمل التشكيك، وعندما تزداد سنواته وتتأثر الصحة، وتكون القدمان غير قادرتين على الوقوف بشكل طبيعي، وترتعش الأيدي من إرهاق عمل متواصل على مدار عقود، وتفقد أعصابها القدرة على السيطرة، ويشت العقل من حمل المسؤوليات، تكون أمام حياة رجل عجوز ضائعة به السبل ويبحث عن طوق نجاه، وهو النموذج الذي ينطبق حرفيا على الستيني كمال حسين، من دولة لبنان، الذي أحب مصر وعشق ضواحيها، فأحبه شعبها، وأهداه أحد أبنائها سيارة لعمل مطعم متنقل، تعويصا له عن فقد عمله الذي يعتمد عليه كمصدر دخل لأسرته الصغيرة.
منذ عشر سنوات قرر "العم" كما يحب أن يلقبه المصريين، أن يأتي إلى مصر لعمل مشروع رفقة أصدقائه، لكنه فشل بعد نشوب خلاف بينه وبين المشاركين في المطعم: "كلهم رجعوا لبنان، لكن أنا رفضت وقولت أنا هفضل في مصر، لأني حبيت شعبها وطيبة ناسها، وحسيت إني واحد منهم".
استقر كمال، في مصر، بدأ يبحث عن باب رزق يساعده على المعيشة: "روحت اشتغلت في كذا فندق، ولما كبرت في السن قالولي إنت بقيت رجل عجوز، أدوني 10 آلاف جنيه علشان أعمل مشروع، لكن الفلوس انصرفت، وبعد كده بدأت أدور علي شغل تاني، اشتغلت في كذا مكان سياحي في شرم الشيخ والغردقة لحد ما وصلت للقاهرة".
يقول "العم" اللبناني: "بدأت أشتغل فيها تحديدا في مجال المطاعم، ولأن الأملاح عندي عالية فمكنتش بقدر أقف كتير، وده سبب ليا مشاكل كتير في الشغل، لحد ما صاحب المطعم قالي معلش مش هينفع تكمل معانا، واداني 500 جنيه ومشاني".
بدأ لون السماء الصافي يتحول إلى لون قاتم، لم يعتاد عليه العجوز الستيني، إذ أصبح لا يدري كيف يطعم أسرته، لكن دائما ما تأتي المحن لتفتح أبواب الفرج: "مصري ساعدني وجابلي عربية ونصبه شاي، أشتغل عليهم قدام معرض العربيات بتاعه".
تهلل وجه "العم كمال" فرحا عندما أيقن أنه سيظل يعمل ويوفر نفقات أسرته الصغيرة، وأحس أن الدنيا فتحت له ذراعيها من جديد، بعد عناد شديد: "بعمل أكل لبناني بسعر مناسب، ومصريبن كتير زباين عندي".
يضيف: "المصريين احتضنوني في محنتي، قرايبي اللي قاعدين في تركيا قاعدين في خيم، وكل حركة بحساب، كل واحد أجنبى بيعتبر إن مصر بلده، وفرحت إن صديقي أسامه عبدالرازق ساعدني وجابلي عربية هدية وكرفان، وجهز معايا كل حاجه، لحد ما وفقت علي رجليا".
الرجل المصري الأصيل -كما وصفه العم كمال-، أسامة عبد الرازق، 48 سنة، من منطقة المعادي، صاحب معرض سيارات، قرر مساعدة العجوز، نظرا لحاجته إلى العمل في ظل رفض تام من أصحاب المطاعم، موضحا:" في يوم حد كان جاي يتفرج على عربية، لاقيت معاه رجل عجوز ومريض، عرفت طبعا حكايته، صعب عليا وقررت أساعده، قولتله هعملك عربية، وفعلا جهزت كل حاجه بنفسي".
يكمل عبد الرازق: "نزلت معاه باب الشعرية أجيب الأدوات، ووقفت معاه لحد ما بدأ يشتغل وصرفت لحد دلوقتي 70 ألف جنيه، ولما حصلت مشكلة مع الحي، فضل 15 يوم من غير شغل، كنت أخليه يجي المعرض نفطر ونشرب شاي، وبعدها أديه اليومية".
يضيف: "كل ما بديه فلوس ربنا بيرزق من حته تانية، وعملت له كرفان، كلفني 25 ألف جنيه، وجايب معاه ناس تساعده في الشغل، لأنه مريض، وولادي بيساعدوه في عمايل الأكل، بنتي في طب وبتساعده".
تعليقات الفيسبوك