علاقة فريدة رسمت ملامحها سنوات طويلة وأحلام مشتركة، لم يزدها الجهد والكفاح إلا قوة ومتانة فى مواجهة الظروف الصعبة، حب الفن كان كلمة السر فى العلاقة التى تحولت إلى توأمة فنية بين الكاتب أبوالسعود الإبيارى والفنان إسماعيل ياسين، بداية من سنوات «الكحرتة» فى كازينوهات ومسارح عماد الدين، حتى التربع على عرش النجومية.
يقول الكاتب أحمد الإبيارى، نجل المؤلف الراحل أبوالسعود الإبيارى: «قد يكون المشهد الأول فى لقاء الثنائى غير معروف للكثيرين، ولكنه لم يخرج عن إعجاب المؤلف الشاب بأداء الفتى السويسى الذى كان تجاوز الـ20 عاماً بسنوات قليلة حينها، وهو ينتزع الضحكات من الجمهور، أثناء تأدية بعض المونولوجات فى الأفراح الشعبية، أو على أحد مسارح روض الفرج، حيث كانت تعتبر الدرجة الثانية للسهرات الفنية آنذاك مقارنة بـ«كازينوهات» شارع عماد الدين».
{long_qoute_1}
وتحدث «الإبيارى» عن ذكريات والده مع الكوميديان الكبير لـ«الوطن»، قائلاً: «بعدما أعجب والدى بموهبة إسماعيل ياسين الفنية، عرض عليه العمل فى كازينو (بديعة مصابنى)، الذى لم يكن ملهى ليلياً بالشكل المألوف فى الوقت الحالى، ولكنه كان أقرب إلى مسرح اسكتشات فنية، وفقرات غنائية وأخرى راقصة، وقف على خشبته كبار النجوم أمثال تحية كاريوكا، أنور وجدى وفريد الأطرش، وبالفعل التحق (ياسين) بالعمل، وحقق نجاحاً كبيراً ونقلة نوعية فى حياته».
«المسرح داعب خيال أبوالسعود وياسين، فالمونولوجات والاسكتشات لم تشبع طموحاتهما الفنية، ولذلك اقترح والدى على السيدة بديعة مصابنى، مالكة الكازينو، أن يقدما كل أنواع الفنون التى تروق لها، سواء غناء أو استعراضات أو اسكتشات تمثيلية، ولكن من خلال مسرحية، وبالفعل وافقت على ذلك، وكتب المؤلف الشاب العرض المسرحى، الذى قام ببطولته (ياسين) وحقق نجاحاً كبيراً، ووقتها تعرضت بديعة لوعكة صحية دخلت على أثرها المستشفى ومكثت به فترة طويلة، وعندما عادت وجدت الكازينو كامل العدد وهو ما أسعدها، قبل أن يخبرها ابن شقيقتها الذى كان يتولى إدارة الكازينو أن مبيعات البار أصبحت معدومة حيث تغيرت نوعية رواده، إلى جمهور مسرحيات أبوالسعود وياسين، ما دفع (بديعة) إلى طردهما من المسرح، حيث هرولت وراءهما بـ(مقشة) فى شارع عماد الدين، ليستقلا بعدها الترام ويفران منها»، وذلك وفقاً لرواية أحمد الإبيارى.
{long_qoute_2}
وتابع: «لمع نجم الإبيارى ككاتب سيناريو، تزامناً مع تألق ياسين السينمائى، حيث كان حريصاً على مشاركة صديقه فى الأعمال التى يقوم بكتابتها، فما زلت أحتفظ بسناريوهات والدى، الذى كان يكتب بخط يده اسم (ياسين)، أمام الشخصية التى سيؤديها، بخلاف باقى الفنانين، ولم يكن ذلك بسبب صداقتهما، ولكنه كان مؤمناً بإمكانياته الفنية لدرجة كبيرة، إذ قدما معاً ما يقرب من 120 فيلماً سينمائياً، بخلاف الأعمال المسرحية التى اشترط فيها الكوميديان أن يكون والدى الكاتب الوحيد لفرقته، وألا يعمل مع جهة أخرى، وعندما عاتبه الكتاب الآخرون، قال «ياسين»: (أنا مش ممانع هاتولى حد بيكتب زى أبوالسعود الإبيارى وأنا أتعاون معاه)، فعندما اعتزم إنشاء فرقته المسرحية، لم يخبر أحداً برغبته سوى والدى».
«الفكرة سرية بينى وبينك، حتى لا يقوم أولاد الحرام بتدبيراتهم الممجوجة والمعروفة. صديقى اللذيذ.. الفكرة هى أننى اعتزمت بمشيئة الله تعالى عمل فرقة تمثيلية فى القاهرة لمدة أربعة أشهر أو حسب تساهيل ربنا، والعمل سيكون فى تياترو الماجستيك أو فى الكوزمو، والفرقة مكونة من أبطال محبوبين للجمهور وعلى الشاشة وأريد أن أفهمك أننى عاوز روايات من ثلاثة فصول، أو نقدم شهر ريفيه وشهر رواية تمثيلية، وأردت أن أخبر يا إما حضرتك تكتبلى الروايات يا إما تخش شريك وليس معنا أحد غيرى أنا وأنت علشان محدش يفركشها، يا تاخد فلوس وتكتبلى هذا أمامك وهذا أمامك، وعلشان الموسم ما يطيرش مننا فأنا كتبت لك لا لضعفى إنما لقلمك الحلو، وهو فيه كام أبوالسعود الإبيارى فى مصر»، هكذا كان نص الخطاب الذى أرسله «ياسين» إلى صديقه الكاتب أبوالسعود الإبيارى فى القاهرة ليخبره برغبته فى تدشين فرقته المسرحية، التى استمر نشاطها على مدار ما يقرب من 8 سنوات، قدما خلالها ما يقرب من 62 عرضاً مسرحياً.
ويقول «الإبيارى»: «فى ذلك الوقت لم يكن متوافراً أمامهما مسرح لتقديم عروضهما، فقاما بتأجير سينما (ميامى)، ولم تكن سوى أرض خالية، لا يوجد بها شىء سوى شاشة عرض وبعض الكراسى المتهالكة، حيث باع والدى عقاراً يملكه، وسحب ياسين أمواله من البنك، وقاما ببناء المسرح على نفقتهما الخاصة، واستأجرا الأرض من صاحبها، ولكن تم تأميمها لأن مالكها لم يكن مصرياً، فأصبحت الدولة تتقاضى قيمة الإيجار، وفى الصيف يتم نقل العروض إلى مدينة الإسكندرية، ويقدمان كل يوم رواية جديدة».
وأردف: «يعتبر الثنائى الوحيدين اللذين أنشآ مسرحاً على نفقتهما الخاصة، ولكن لم يتم تكريمهما بعد ذلك، وتجاهل المسئولون إطلاق اسميهما على المسرح». وفيما يتعلق بضياع جزء كبير من تاريخ مسرح إسماعيل ياسين، قال: «التليفزيون كان يصور العروض، ويمتلك حق بثها فى الجمهورية العربية، التى كانت تضم مصر وسوريا آنذاك، فهناك ما يقرب من 48 مسرحية، ولكن تم مسح عدد كبير منها، وأعلم من قام بذلك ولن أسامحه، وما فعله كان بغرض إخلاء الساحة لعروض أخرى». وتطرق «الإبيارى» إلى أسباب القطيعة بين «ياسين وأبوالسعود»، قائلاً: «والدى كانت لديه القدرة على التطور مع آليات السوق، فبدأ فى العمل مع الجيل الجديد من الكوميديانات، والتحق بعد ذلك بفرقة نجيب الريحانى، فبدأ أهل الشر فى إحداث وقيعة بينهما، بزعم أن الكاتب الراحل تخلى عن صديقه، وهذا لم يحدث إطلاقاً، حيث دافع عنه فنياً بدرجة كبيرة، وأثناء اختيار أبطال فيلم (صغيرة على الحب) رشحه لأكثر من دور فى الفيلم، وكان يجد معارضة من المخرج نيازى مصطفى، حتى اقترح بأن يقوم بالدور الذى أداه نور الدمرداش، إلا أن (ياسين) رفض ذلك».
وأضاف: «فكر إسماعيل ياسين فى العودة للمسرح مرة أخرى أثناء وجوده فى بيروت، ولكنه كان قلقاً بشأن التحدث مع والدى فى هذا الأمر، خصوصاً أنه لم يتحدث معه لمدة عامين، ونقل رغبته لزوجته التى تحدثت مع والدى عبر التليفون، وطلبت منه كتابة مسرحية ليقدمها، حيث وافق على الفور وطلب منها أن ترسل السلام لياسين، وأن تخبره برغبته فى علبة حلوى من لبنان، ورفض أن يتقاضى عنهما أجراً، ولكن لم تحقق المسرحية نجاحاً وأغلقت أبوابها بعد 10 أيام، وكان قد توفى والدى بعدها». وكشف الكاتب المسرحى عن مواقف طريفة جمعت والده بالكوميديان الراحل: «(السند) خير وصف لمكانة أبوالسعود الإبيارى فى حياة إسماعيل ياسين، فعندما وقع الاختيار على فرقته لتؤدى عرضاً مسرحياً فى سوريا، احتفالاً بعيد قيام الجمهورية العربية المتحدة، صمم على سفر والدى معه، ولكنه كان يخاف من الطيران، ومع إلحاح (ياسين) ذهب والدى إلى المطار بشنطة خاوية، وفى اللحظة الأخيرة لم يصعد إلى الطائرة، وبعث الفنان حسن مصطفى ليحل مكانه فى إدارة الفرقة، وفى واقعة أخرى كان ياسين متجهاً للإسكندرية بسيارته وصدم حماراً، وألقت الشرطة القبض عليه ظناً منها بأنه صدم أحد المارة، لأن مقدمة السيارة كانت مغطاة بالدماء، وعلى الفور انتقل والدى إلى مقر احتجازه، ولم يتم الإفراج عنه حتى عُثر على جثة الحمار». واختتم «الإبيارى» حديثه عن طرائف «ياسين»: «كان هناك سفاح يدعى محمود سليمان، وانتشرت آنذاك أخبار جرائمه، وحينها شعر والدى بالذعر حيث كان يذهب للبيت يومياً بإيراد المسرح، وفى أحد الأيام تلقى مكالمة هاتفية من السفاح ذاته، يطلب منه خلالها ترك مبلغ مالى أمام المنزل، وألا يبلغ الشرطة حتى لا يقتل أطفاله، ولكنه استنجد بها، وحاصرت القوات المنزل، ومنعتنا أنا وإخوتى من الخروج، ولم نتمكن من الذهاب إلى المدرسة، وبعد مرور 15 يوماً فوجئ أن إسماعيل ياسين وراء هذا المقلب، ووقتها شعر بضيق وغضب شديد، وعندما سأله الضابط هل تتنازل عن البلاغ؟ رد عليه «ياسين»: (أُمال مين اللى هيعرض على المسرح بالليل لو متنازلش)، ولكن أبى لم يسامحه، إلا بعد القبض على السفاح)».
تعليقات الفيسبوك