في السابعة صباحًا من كل يوم، ينهض «بيبرس ممدوح عبدالله» من غفوته كما عودته والدته، يتحرك بخطوات محسوبة نحو صنبور الماء يتوضأ ويصلي، ومن ثَم يتجه صوب كتبه المتراصة على مكتبه يختار منها ما يقرأ بحذر؛ كي لا يُفسد ترتيبها الذي تعود عليه، صفحاتها تشي لمن يقع نظره على أحد سطورها خلسة بعالم خاص يتكيف به المراهق الصغير، يتضح ملامحه رويدًا بحديث جانبي قصير يدور بينه ووالدته، تخيره بين أصناف الطعام التي تميل نفسه إليها بلكنة إنجليزية تتلعثم أحيانا في نطقها، فيجيبها بنفس اللغة بطلاقة توحي لمن يتابع حديثهما بأنه حاملا لجنسية أجنبية، فلا يجيد سواها نطقًا وكتابة.
بيبرس يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولا يجيد لغة غيرها
لم يتجاوز عامَه الخامس عشر بعد، إلا أن المراهق بيبرس استطاع أن يُتقن اللغةَ الإنجليزيةَ دون سعي من أسرته لذلك، يتحدث بها ويقرأها بطلاقةٍ ولا يعرف طريقا للتعامل باللغة العربية، قد يبدو ذلك للبعض تفوقًا وإنجازًا غير مسبوق لمن هم في مثل عمره، إلا أن تلك المهارة لم تكن برغبته وصارت عقدةً في حياته بعدما باءت كل محاولاتِ الأم لتعليمه اللغة العربية بالفشل، وصارت حياته كقشة خفيفة تحملها أمواج عاتية يمينا ويسارا لا تقوى على مواجهتها.
داء «كاواساكي» بداية رحلة بيبرس مع المرض
مبكرًا وقبل أن يرى من الحياة نعيمها، بدأت رحلة«بيبرس» مع عيادات الأطباء في عمر الـ9 أشهر، حين داهم جسده داء «كاواساكي»، حسبما شخصه فريق طبي كندي بدولة الإمارات، حيث ولد وقضى سنوات عمره الأولى هناك، وهو الْتِهابًا في جدران الشرايين متوسِّطة الحجم في الجسم بالكامل يُصيب الأطفال بشكل أساسي.
تستكمل الأم ندى النيل حديثها لـ«الوطن»، وكادت الدموع أن تغلبها، لم تدرك حينها أن ذلك الداء سيقود ابنها الوحيد إلى متاهة لا نهاية لها: «المرض ده أثر على شرايين القلب والمخ، وبعدها بدأ يصرخ ويلف حوالين نفسه، تصرفاته كانت مش طبيعية حاولت أعلمه الكلام مكنش بيكرر الكلام ولا بينطق، وفي عمر 4 سنين أول كلمة نطقها كانت إنجليزي»، تروي والدته ندى النيل.
فريق طبي كندي يشخص حالته أخيرا بمتلازمة «اسبرجر»
طفولة تمتلأ خزانة ذكرياتها بعيادات الأطباء ورائحة عبوات الدواء، عاشها الصغير وسط والديه، طرقت أسرته أبواب شتى لعيادات الأطباء في دولة الإمارات العربية، حيث ولد هناك، لتشخيص حالته، ومن طبيب لآخر حتى جرى تشخيصه في نهاية الأمر من أحد المستشفيات الحكومية هناك بأنه اضطراب طيف التوحد، وأعراض متلازمة «اسبرجر» بواسطة طبيب مختص: «جابوا ليه دكتور سلوك أمريكي عشان يقدر يكلمه لإنه مكنش بيتكلم غير انجليزي بس وشخص حالته متلازمة اسبرجر».
تلك اللحظة التي استغرقت الأم بضع ثوان لوصفها بمرارة كما وقعت: «مكنتش فاهمة أي حاجة غير إن ابني مش هيعرف يتكلم أي لغة غير الإنجليزية ومخه بيرفض أي لغة تانية».
متلازمة «اسبرجر» هي إحدى اضطرابات طيف التوحد، ويُظهر المصابون بهذه المتلازمة صعوبات كبيرة في تفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين من ناحية الجوانب اللغوية والإدراكية وقد يتبنى المصاب بها لغة واحدة فقط دون غيرها، بحسب الأطباء المعالجون لـ«بيبرس».
متلازمة اسبرجر قد يتبنى المصاب بها لغة واحدة فقط دون غيرها
انتقصت الأم من حكايتها الكثير ما زال في خزانة ذكرياتها تفاصيل تخشى الاقتراب منها، حتى لا تسقط القشرة الواهية التي تسند روحها، جلست في تركيز تحدق إلى التقارير الطبية المبعثرة من حولها من خلف نظارتها الطبية تحاول «لضم» الأحداث سريعا ببعضها حتى يكفي الوقت لشرحها: «بدأ ياخد أدوية كتير ملهاش نهاية منها علاج فرط الحركة المعروف علميا بـ«ADHD» ومفيش حاجة بتتغير» إلى جانب العلاج الدوائي قطعت معه رحلة علاج سلوكي طويلة: «جبت ليه مدرسين يعلموه عربي وخد جلسات تخاطب كتير»، كل ذلك دون جدوى وكأن لسانه انعقد على تلك اللغة التي يتقنها ببراعة يوما بعد يوم.
من الإمارات إلى السويد عقل «بيبرس» يرفض تعلم اللغة السويدية والفرنسية
من دولة الإمارات العربية إلى دولة السويد الأوروبية، انتقلت الأم وصغيرها إلى هناك بحثًا عن مخرج لتلك الدائرة التي انغلقت عليهم، عيادات الأطباء هناك حفظت خطواتهما من كثرة التردد عليها، يمر الوقت بثقل لا يعلم مرارته إلا هي: «كان عنيف في المدرسة وبيضرب زمايله ولفيت بيه على الدكاترة هناك لعلاجه ومفيش حاجة اتغيرت»، حتى حاولت تعليمه اللغة السويدية والفرنسية إلا أنه رفض كلامها أيضا كحال رفضه تعلم اللغة العربية.
في صبيحة يوم التاسع عشر من يناير عام 2017، غادرت الأم وصغيرها دولة السويد إلى مصر بعد أن يأست من أمر علاجه، ما إن ربطا الأحزمة وأقلعت الطائرة حتى أغمضت عينها وعادت بالزمن إلى الخلف عدة سنوات، كيف تصف المشهد لمن حولها، تحاول استعادته وتعلم أنه يصعب نقله، أراحت ظهرها وشردت في مستقبل تجهل ملامحه، تتابع عقارب الساعة إيذانا بإعلان هبوط الطائرة وعقلها منشغل بما سوف تفعله بعد عودتها إلى مسقط رأسها: «بدأت معاه هنا رحلة تانية بين الدكاترة والمستشفيات الحكومية لتشخيص حالته بورق معتمد في مصر» وذلك بالتوازي مع محاولات استقراره في مدرسة تستوعب التعامل مع حالته.
أسرة «بيبرس» تعود إلى مصر وتستقر بالإسكندرية بعد فشل علاجه
استقرت الأم وابنها الوحيد في منزلهم القريب من شاطئ البحر بالإسكندرية، في صبيحة اليوم الأول بعد العودة كانت «الأم» واهنة بعد ليلة طويلة مرت كأنها أبدا، استفاقت في عجالة وبدأت ترتب أوراق «بيبرس» التي تحتفظ بكل صغيرة وكبيرة فيها، بدأت تطرق أبواب الأطباء حتى قادتها قدماها إلى مستشفى المعمورة بالإسكندرية، والتي أقر الأطباء بها أيضًا ما أقره الأطباء في الخارج وبعد ساعة كاملة قضاها «بيبرس» بمفرده مع لجنة طبية متخصصة خرجوا ومعهم تقرير شارح لحالته: «بعد إجراء الفحص الإكلينيكي واختبار كارز للتوحد وجد أن المراهق لا يتقن إلا اللغة الإنجليزية نظرا لنمطية السلوك التي يتسم بها الاضطراب الذي يعاني منه اضطراب التوحد» لتنصرف الأم بصحبة صغيرها حاملة من الحزن جبالا لايقوى على حملها أحد.
استسلمت الأم- دون يأس- لحالة «بيبرس» وبدأت تتعايش مع حالته حتى أنها أتقنت الإنجليزية من كثرة محاورته، تارة تراه متكورًا على نفسه في إحدى زوايا غرفته، يصيح في وجهها بكلماتٍ غير مفهومة، وتارة أخرى في أوج شغفه ينهل من العلم ما لم يستطع أحدًا في مثل عمره تحصيله: «بيبرس بشهادة كل مدرسينه بيجيد فهم وكمان شرح الكيمياء والفيزياء بطلاقة وشاطر فيهم جدا» فباتت الأم تتشبث بحلم انضمامه إلى جامعة زويل وتبنيه علميًا كحالة استثنائية خاصة تستحق الدعم، على أمل أن يجد حياة سوية.
بـ«حضن» وقٌبلة على يد وجبين والدته يعبر«بيبرس» دوما عن حبه لمصدر قوته الوحيد، تستقبله بابتسامة معهودة لا تغيب، وباتت رفيقة رحلته تتصفح معه صفحات كتبه المدونة كلها بالإنجليزية، وتشاركه اللعب بألعاب خاصة بتنمية الذكاء والمهارات كورقة رابحة تخفف من حدة سلوكه قليلا كما نصحها الأطباء.
معاناة بيبرس مع مادة اللغة العربية تهدد تعليمه: «المدرسة هتفصله»
انتهت سنوات العمر الأولى للصغير«بيبرس»، وتدرج في سنوات التعليم ما زاد العبء على كاهل الأم، ليال طوال نامت فيها تبكي من أثر كلمات من أحد المعلمين وصفت ابنها بالـ«المعاق»: «بيبرس اتنقل على 14 مدرسة رغم إن عمره 15 سنة، لأنه مش بينجح في العربي كل سنة وحاولت أجيب ليه إعفاء تدريجي في سنوات النقل حتى نفذ رصيد المحاولات وأبلغتها المدرسة التي يتعلم بها الآن بأن الأمر بات خارجًا عن إرادتهم في سنة الشهادة الإعدادية»، مؤكدة: «قالولي آخر فرصة ليكي السنة دي وفي الشهادة الإعدادية مش هنقدر نعفيه من العربي».
«امتحان العربي بيكون ضغط عصبي عليا مش فاهم حاجة ومش عارف أجاوب» باللغة الإنجليزية، وبعد أن نفض غبار الرهبة من التعامل مع شخص غريب عليه، تحدث المراهق «بيبرس» إلى «الوطن» بينما كان جالسا أمام مكتبه في غرفته، عن معاناة داخل لجنة الامتحان لا يعلم تفاصيلها سواه، يصف بتلعثم شديد ينم عن وقع الشعور على نفسه كيف لا يستطع عقله استيعاب منهج اللغة العربية ولا يتمكن من الإجابة نهائيًا.
بدافع الأبوة وبالعاطفة تناشد الأم من خلال «الوطن» الدكتور طارق شوقي، وزير التربية والتعليم، بالنظر إلى حالة «بيبرس» بعين الرأفة، وإعفاءه من امتحان اللغة العربية؛ نظرًا لظروفه الصحية الخارجة عن إرادته: «بناشد الدكتور طارق شوقي يعفي ابني من عبء امتحان العربي وإلا هيتفصل من التعليم السنة الجاية لأنه شهادة إعدادية».
خزانة الأم التي تحتفظ فيها بالتقارير الطبية كافة لحالة ابنها زادت ورقة جديدة الأسبوع الماضي، حين أخضعته لاختبار الذكاء باللغة العربية الخاص بالطلبة المتقدمين للالتحاق بنظام الدمج المدرسي، وخاض الاختبار بنتيجة 71 درجة من 90، وصنف بطئ تعلم باللغة العربية، وبتكرار نفس الاختبار باللغة الانجليزية حصد بيبرس 115 درجة من 90 درجة، ما يعني تفوقه الشديد في الإنجليزية: «صنفوه بطئ تعلم باللغة العربية ولا يجيد إلا الإنجليزية»، في انتظار مصير مجهول مع رحلة الحياة والتعلم، ولاتزال الأم تغالب مخاوفها على ابنها الوحيد صباح كل يوم.
تصنيف منظمة الصحة العالمية لمتلازمة أسبرجر
تنتمي متلازمة أسبرجر إلى مجموعة اضطرابات التوحد، ويواجه المصابون بالمتلازمة صعوبة في تفسير اللغة وبعضهم يتبنى لغة واحدة دون غيرها، أيضًا قد يواجهون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم، ولا يوجد سبب واضح حتى الآن للإصابة بمتلازمة أسبرجر، ولكن يرجح بعض العلماء وجود بعض العوامل التي تساهم في الإصابة بها أبرزها الجينات الوراثية، حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية والدليل الإحصائي للاضطرابات النفسية الأمريكية.
وأشارت الإحصائات العالمية، إلى أن نسبة الذكور المصابين بمتلازمة أسبرجر مقارنة بنسبة الإناث تبلغ 4 : 1، وفي عام 2016، بلغ عدد المصابين بمتلازمة أسبرجر 43.8 مليون شخص حول العالم.
تعليقات الفيسبوك