"عـواجيــز»: لو بطلنا شغل نموت
التقدم فى السن لا يعنى العجز عن العمل، وهناك العديد من النماذج تبرهن على ذلك لمكافحين يرفضون المكوث فى المنزل بلا هدف، فأحبوا العمل والكفاح، ورفضت أجسادهم الراحة، وعجزت عقولهم عن استيعاب فكرة التقاعد. «الوطن» عايشت عدداً من الباعة الجائلين بمنطقة «العتبة» بمحافظة القاهرة، ممن تخطت أعمارهم حاجز الستين عاماً، وما زالوا يعملون حتى الآن، حيث أكد بعضهم أنه لا سبيل لهم سوى الشارع، كى يضمنوا توفير نفقات أبنائهم، بينما أشار آخرون إلى عدم تقبُّل فكرة اعتزال العمل، وأن «الشعر الأبيض» لا يعنى بالضرورة جلوسهم فى البيت.
قصص كفاح رواها «عواجيز» بقلوب شابة، إن لم تعد قواهم تتحمل السير لمسافات طويلة وهم يحملون على ظهورهم منتجات لبيعها فى السوق، إلا أن حماسهم لم يفتر، ويرفضون الجلوس دون عمل.
حينما يدور الزمن، يتحول كل شىء، ويصبح الغنى فقيراً، وصاحب الأعمال عاطلاً، تلك الكلمات تعبر بشكل دقيق عما حدث لفخرى جمعة، 73 سنة، من منطقة الزاوية الحمراء، ذلك البائع الذى يقف فى الشارع منذ 5 سنوات بعدما أصيب بمرض فى الرئة نتج عن استنشاق مواد الغراء لفترات طويلة، حيث كان يعمل «جزماتى»، يمتلك محلاً خاصاً فى منطقة الزاوية الحمراء، قبل أن يدور به الزمن، ويجبره على تغيير مسار حياته: «كان عندى ورشة جزم باعرض فيها شغلى، لحد ما تعبت بسبب الروايح، وعملت كذا عملية، وقفلت الورشة علشان أتعالج ومبقاش عندى أى مصدر دخل».
باع العجوز السبعينى الورشة كى ينفق على علاجه، وبعدما كتب له الشفاء كان قد خسر جميع الأموال التى جمعها طيلة 50 عاماً عمل خلالها فى صناعة الأحذية: «خسرت كل حاجة، وكان لازم أشتغل علشان أربى العيال، وكمان مش متعود على قعدة البيت».
لم يجد الرجل سوى سوق العتبة أمامه، فقرر أن يأتى إليه فى رحلة بحث عن عمل يكفل له الأمان والستر: «كان هدفى أربى عيالى التلاتة، وفعلاً ربنا كرمنى، وعرفت أربيهم، وكلهم اتجوزوا وخلفوا كمان، وقاعد أنا ومراتى فى بيت بالإيجار فى الزاوية».
لم تنته رحلة كفاح «فخرى» عند زواج أبنائه، وذلك لأنه لا يملك مصدراً للدخل يتمكن من خلاله من توفير نفقاته وزوجته، الأمر الذى جعله يستمر فى العمل على الرغم من تقدمه فى العمر: «كان لازم أفضل شغال، علشان أجيب مصاريفى، ورغم إنى مابقتش قادر».
يعمل «فخرى» على «فرشة أحذية» فى سوق العتبة، لا يملكها، وإنما يأخذ البضاعة من أحد التجار، ويعود آخر اليوم إلى التاجر كى يعطيه المبالغ التى جناها نظير بيع الأحذية، نظير يومية: «باخد 30 جنيه فى اليوم، والغدا على حسابه، ولو مفيش شغل باخد 25 جنيه».
يحلم «فخرى» بالحصول على معاش، على الرغم من تخطيه سن المعاش: «لو قعدت يوم مش هنلاقى ناكل».
السعى دائماً ما يجلب الأرزاق، تلك المقولة هى التى يتخذها أسامة بدوى، 67 سنة، منهجاً فى الحياة، يضعها طيلة الوقت نصب عينيه كى لا تخور قواه، بعد سنوات قضاها متنقلاً من مكان إلى آخر فى رحلة بحث عن الرزق.
منذ نعومة أظافره يشعر «أسامة» بأن عليه واجباً تجاه من حوله، وزاد شعوره ذلك عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، حينها قرر أن يقف فى الأسواق ليبيع لعب الأطفال: «كنت عايز أجيب فلوس لأهلى علشان أفرّحهم بيّا».
رحلة كفاح «أسامة» طويلة وممتدة، حيث كان العجوز يعمل لساعات طويلة فى أكثر من عمل كى يحصد الأموال التى تضمن له ولأطفاله الاستقرار: «كنت زمان بشتغل فى 3 حاجات مع بعض، أقف على فرشة لعب أطفال، وبعدين أبيع جزم فى سوق الإمام، وبالليل أقف على عربية كبدة، لحد ما عملت عملية قلب مفتوح، ومابقتش قادر اتحرك زى الأول».
لم يستسلم «أسامة» للمرض، وقرر أن يعمل على عربة «رز بلبن» وحينها كان يحصل على أجر بسيط 20 جنيهاً فقط، لم يكن كافياً للوفاء بالتزاماته، وهنا وجد الرجل فرصة ذهبية بالنسبة له، عندما عرض عليه تاجر شراء عربة متهالكة مرفقة بدراجة: «اشتريتها من غير تفكير، ووقتها استلفت فلوس علشان أدفع المقدم، وأخدتها منه، وكنت فى الفترة دى اتعلمت ازاى أعمل رز بلبن وعليه كنافة، وبدأت أشتغل عليها». مع دقات الخامسة صباحاً يستيقظ «أسامة» ويتوجه إلى السوق من أجل شراء الأرز واللبن وكذلك الكنافة والبسبوسة والمنتجات التى يحتاجها: «ساكن فى منطقة السلام مع عيالى فى شقة إيجار بـ500 جنيه، لكن المشوار كان بعيد عليا، علشان كده أجّرت أوضة فى بولاق أبوالعلا بـ250 جنيه فى الشهر، بجهّز فيها الشغل بتاعتى، ولما بخلّص متأخر بنام فيها برضه».
يحلم «أسامة» بعمل ينقذه من الشارع، وذلك لأنه يريد الاستقرار فى عمل يضمن له دخلاً ثابتاً: «طول النهار بلفّ بالعجلة فى العتبة، وقلبى مش حمل البهدلة، لكن ماينفعش برضه أقعد علشان عيالى».
الحياة فى بعض الأحيان تكون قاسية على هؤلاء المكافحين الذين يسعون إلى العيش دون مشكلات وأزمات، فقط يريدون الستر.. تلك الكلمات تعبّر عن حال سليمان عزالدين، ذلك العجوز الستينى الذى ظل لسنوات يبحث عن عمل يكفل له ولأسرته الاستقرار والأمان، ولم يجدهما يوماً.
بعد سنوات قضاها «سليمان» متنقلاً من عمل لآخر، استقر به الحال فى منطقة العتبة، يبيع الورود المجففة المصنوعة من مخلفات الأراضى الصحراوية غير الصالحة للزراعة، فى محاولة منه لكسب قوت يومه.
رحلة العجوز تبدأ يومياً مع دقات السادسة صباحاً، حيث يستيقظ من نومه عند الفجر، يصلى أولاً، ثم يبدأ فى تجهيز الشنطة التى سيحمل فيها البضاعة، وبعدما ينتهى يتوجه إلى موقف قرية الخانكة بمحافظة القليوبية فى رحلة ذهاب اعتاد عليها منذ 20 سنة، قضاها فى الترحال بين الأسواق، حتى استقر به الحال فى منطقة العتبة منذ خمس سنوات: «الحياة صعبة، وماينفعش اللى زينا يقعدوا، لأنهم لو قعدوا هيموتوا من الجوع هما وعيالهم، ومش مهم نوع الشغل إيه، المهم بجيب مصاريف البيت». لم يتعلم «سليمان» حرفة تكفل له الاستقرار، ومن هنا فكر فى استغلال مخلفات الأراضى كى يحولها إلى تحف فنية، بعدما يستخدم الصبغات للتلوين، حتى تصبح قريبة الشبه بالورد: «مفيش حد بيعمل الشغل ده كتير، علشان كده قلت أهو يبقى شغل يجيب لى قرشين وخلاص، علشان أعرف أستر عيالى، بدل القعدة».
يقوم الرجل بشراء تلك المخلفات بسعر يفوق الـ10 جنيهات للكيلو، بعدما كانت تباع بالطن بسعر قليل، ولكن زادت أهميتها نظراً لندرة الحصول على تلك الأعواد الصالحة للتشكيل والتلوين: «هى مخلفات ناشفة زى الورد بالظبط، بس مابيكونش ليها لون، بجيبها وانسقها وأعمل منها فازة ورد مجفف، وبتعجب ناس كتير، لأنى بعرف أبيّن شكلها المميز بطريقة ملفتة للنظر».
بملابس مهندمة وشعر مهذب وملامح تدل على الرقى، وقف عبدالمجيد أنور، 71 سنة، من منطقة شبرا، ينظم عدداً من الأحذية، بشكل يجذب إليها الأنظار، بهدف الترويج لتجارته، وضمان الحصول على يوميته البسيطة.
لا يمتلك «أنور» فرشة الأحذية التى يقف عليها، ولكنه يبيع ما بها لصالح أحد التجار، فى مقابل الحصول على 40 جنيهاً يومياً: «مابيعملوش حاجة، لكن ماينفعش أقعد فى البيت».
رفض السبعينى الجلوس فى المنزل بعدما تمت إحالته للتقاعد على الرغم من أنه لم يكمل السن القانونية للتقاعد، حيث تعرض لبعض المشكلات الصحية، فتخلى عنه صاحب الشركة التى كان يعمل بها، وهو لم يكمل الـ49 عاماً: «طلعونى معاش مبكر، لأنى كنت تعبت شوية، وماكانش ينفع أقعد فى البيت من غير شغل، لأنى اتعودت على الشغل، وكمان عايز أربى عيالى الخمسة».
دائماً ما كان يشعر «أنور» بنظرات شفقة، تحولت فيما بعد إلى نظرات ضيق من كثرة مكوثه فى البيت عقب إحالته للتقاعد: «ماكانش حد مستحمل قعدتى فى البيت بعد ما طلعت معاش مبكر، علشان كده كان لازم أنزل أشتغل».
بعدما ترك «أنور» العمل بالشركة أصبح الشارع هو الأمان بالنسبة له، ووجد فيه الاستقرار: «محدش هنا هيقول لى انت كبرت وعجزت وكفاية شغل عليك بقى، هنا هفضل شغال لحد ما أموت».
فى سبيل الحصول على قوت يومه عمل العجوز فى سوق العتبة مع عدد كبير من التجار، حتى استقر به الأمر على فرشة أحذية: «تعبت من كتر اللف، كنت كل يوم باشتغل فى مكان باليومية، أنضف وأمسح وأكنس». رغم ظروف «أنور» القاسية، فإنه تمكن من تربية أبنائه الخمسة، والوصول بـ3 منهم إلى بر الأمان بعدما حصلوا على مؤهلات جامعية: «3 من عيالى مخلصين كليات، وعندى لسه اتنين فى الكلية، ومصدر دخلى الوحيد هى أجرة الفرشة دى».
رحلة أسبوعية اعتادها العجوز الستينى محمد مصطفى، قادماً من محافظة أسيوط، كى يبيع «ملايات السرير» وبعض المنتجات الأخرى فى منطقة العتبة، من أجل توفير الأموال التى تكفل له ولذويه الاستقرار والأمان، بعد سنوات قضاها الرجل متنقلاً من مكان إلى آخر، عندما كان يعمل بمجال المعمار.
سنوات طويلة قضاها «مصطفى»، 68 عاماً، فى الأعمال الخرسانية والمعمار، قبل أن تضيق به الدنيا بعدما خارت قواه، ونفدت طاقته وأصبح لا يقوى على صعود السقالة ولا الأدوار المرتفعة، الأمر الذى كان بالنسبة له قاتلاً، كيف له أن يتحمل تلك الحياة وهو دون عمل، بعدما تقدم به العمر؟ «بقيت زى خيل الحكومة».
لم يلتفت الرجل المكافح لشيب شعر رأسه، وقرر أن يلجأ إلى سوق العتبة الشهير، بعدما علم أن أقاربه يعملون به منذ سنوات: «مبقتش أقدر أشيل رمل وزلط زى زمان، ولما عرفت إن أهل بلدى فى أسيوط شغالين فى السوق، قُلت آجى أسترزق». جاء «مصطفى» إلى السوق محملاً بعبء ثقيل، وهو إطعام صغاره الخمسة، الذين حرموا من التعليم بسبب الضائقة التى تعرض لها الرجل.
صعوبات كثيرة يواجهها «مصطفى» فى يومه، تتمثل فى ضرورة العودة إلى منزله بأموال تسد رمق صغاره: «من فترة قلت أجيبهم وأقعد بيهم هنا، وجيت قعدت فى المنشية، وبعدها ربنا كرمنى والدولة نقلتنى الأسمرات، ولسه لحد دلوقتى بسافر كل أسبوع أسيوط أشوف إخواتى وناسى». ينفق «مصطفى» يومياً 20 جنيهاً للتنقل فى المواصلات، إلى جانب مصاريف المعيشة اليومية: «ماشى يوم بيوم».
على الرغم من تقدمه فى العمر ومعاناته مع المرض، فإنه ما زال يعمل بجد واجتهاد، وذلك لأنه يحمل هم إطعام أبنائه الخمسة وتوفير نفقات أسرته. عبدالخالق محمد، من محافظة الجيزة على مشارف الستين، استقر به الحال فى سوق العتبة، حيث يبيع لعب أطفال، من أجل توفير حياة كريمة لأسرته.
رفض «عبدالخالق» الاستسلام للمرض، وقرر أن يتحدى «العلة» ويستمر فى العمل دون كلل حتى يضمن الوفاء بالتزاماته لأسرته: «عندى 5 عيال، كلهم فى رقبتى، ولازم أفضل شغال علشان أربيهم، وأفرح بيهم».
يقف فى السوق، يبيع لعب الأطفال، تلك المهنة التى لم يعرف سواها، حيث يعمل بها منذ ثلاثين عاماً، قضاها متنقلاً بين الموالد، باحثاً عن قوت يومه: «كنت بنام فى الشوارع جنب البضاعة، لأنى كنت بلف كل المحافظات ورا الموالد، كنت أروح قبل المولد بأسبوع، وأفضل موجود لحد ما ينتهى، وأرجع لعيالى بالمكسب، وبعدها أسافر محافظة تانية ورا مولد جديد».
ظل «عبدالخالق» على ذلك الحال، حتى تقدم به العمر وخارت قواه وضعف جسده، وأصبح لا يقوى على تحمل مشقة السفر والتنقل من محافظة إلى أخرى: «السفر صعب عليا فى سنى ده، والشيل والحط مابقوش ينفعوا، وأنا مش متعلم علشان أشتغل حاجة تانية، وكمان لعب الأطفال بالنسبة ليا هى أكتر شغلانة بفهم فيها».
مكسب «عبدالخالق» من لعب الأطفال قليل، ولكنه مُرضٍ بالنسبة لمن ذاق مرارة الفقر وضيق الرزق: «أوقات بكسب 30 جنيه فى اليوم وأوقات أكتر، والحمد لله بيكفونى، وأنا راضى برزقى وأهو أحسن من قعدة البيت».
تعليقات الفيسبوك