جدران مزينة بلوحات فنية ملونة لكل منها حكاية، ربما لم يسع الوقت لسماع تفاصيلها في جلسة واحدة، إذ اعتاد العجوز الستيني روايتها على أحفاده في جلسات ليلية، يكسر بها حرارة الصيف وبرودة الشتاء، تشبعت روحه بها حتى أجاد رسم خطوطها بريشته على ورقة بيضاء دون سابق خبرة في الرسم، فاتخذها هواية جعلت من بيته مقصدًا لمن اشتاق إلى «أرض الذهب»، وللسائحين الراغبين في الاطلاع على ثقافة حضارة عمرها آلاف السنين.
ترك النوبة منذ طفولته وظل محتفظًا بعاداتها
على قارعة طريق جانبي في قرية منشية النوبة التابعة لمدينة الطود، جنوب الأقصر، يقع منزل النوبي جمال عبد اللطيف، أتى إلى القرية مع أسرته حين كان طفلًا يخطو خطواته الأولى، مضت السنين ولا يزال حب بلاد النوبة متملكًا من روحه، لم يتخل عن كثير من العادات التي رواها عليه جده ووالديه في صغره.
«لسه متمسك بعادات النوبة وربيت ولادي عليها وقررت أرسم لوحات تجسد كل عادة منهم»، يقول «جمال»، في بداية حديثه لـ«الوطن»، عن سر اللوحات التي تملأ جدران مدخل بيته، وتنعكس ألوانها على زجاج النوافذ مع وقوع أشعة الشمس عليها، فيلتفت إليها المارة بالشارع.
سنوات شبابه كلها قضاها «جمال» في العمل بمجال السياحة، حتى بلغ الـ60 من عمره، وانتقل إلى المعاش الذي صاحبه تغييرًا جذريًا في مسيرة حياته، تحديدًا منذ عام 2013، حين أتى موعد زفاف ابنته وقرر تزيين جدران منزله بالنقوش النوبية، كواحدة من العادات النوبية القديمة في أيام الأفراح، «كانت أول مرة أمسك ريشة وألوان، واكتشفت أني بعرف أرسم»، وانهالت الإشادات على فنه من الأسرة والأصدقاء والزائرين للتهنئة.
تجسيد عادات النوبة في لوحات فنية
انفض العُرس، وانصرف المهنئون، وسكنت ضوضاء بيت الرجل الستيني، فعاد ليمسك ريشته وألوانه من جديد، كوسيلة لكسر رتابة الأيام: «بدأت أرسم طبيعة النوبة ومناظرها الطبيعية، ولما لقيت رسمي بيعجب الناس، قررت أرسم كل عادات النوبة اللي سمعت عنها من أبويا وجدي وعيشت محافظ عليها، رغم أني سايب أرضنا من قبل ما أتعلم الكلام».
يومان أو ثلاثة على الأكثر، هو الوقت الذي يستغرقه النوبي «جمال» لرسم اللوحة الواحدة، تطرأ الفكرة على ذهنه فجأة، فيترك مقعده ويتجه نحو ركنه الذي خصصه لأدواته، ويبدأ في رسم ملامحها، «ممكن أشتغل على رسم لوحتين في وقت واحد مع بعض»، يوما بعد يوم تحولت الهواية إلى عمل أحبه وأتقنه، فاتخذ من ساحة بيته الواسعة مكانًا لعرض لوحاته: «حولت مدخل بيتي لمعرض فني كإنه متحف بيجسد أرض النوبة»، بحسب تعبيره.
30 لوحة نوبية حولت البيت لمزار سياحي
ثلاثون لوحة ملونة بألوان الزيت تضمها ساحة بيت العجوز الستيني، تبرز حلاوة المشهد دكك خشبية على الطراز النوبي، تأخذ الزائر في جولة سريعة إلى «بلاد الذهب» بأشكال تعكس عادات أهلها، تتنوع بين عادات الزواج والميلاد والعقيقة، يأتي لرؤيتها جيرانه وأصدقائه المقربين، حتى ذاع صيت بيته في المحافظة، ووصل صداه إلى الجنسيات الأجنبية الوافدة للسياحة،«البيت اتشهر وكل يومين بيجي يزوره السياح، ويتصوروا مع اللوحات ويسألوا عن عادات النوبة»، فيبدأ هو برواية تفاصيل كل لوحة بفرح شديد، لنشر تاريخ وحضارة بلاده بين القارات.
هواية «جمال» تحولت بالوقت إلى مصدر للكسب، كلما طلب أحدهم شراء لوحة من لوحاته مقابل مبلغ من المال: «أنا عمري ما بحدد سعر للوحة، اللي بيدفعه الشخص باخده، لأن مش هدفي الربح، أنا فرحان بنشر عادات النوبة».
تعليقات الفيسبوك