طريق طويل أوله زحام وأصوات متعالية للقادمين الراغبين فى اقتناء مركبة جديدة من سوق السيارات المقام كل جمعة، وآخره على بُعد أمتار سكون يليق بمكانة وتاريخ ساكنيه، فهنا المثوى الأخير لمشاهير لا يمكن نسيانهم.
أبرزهم «حليم وشادية ورياض والأطرش وأم كلثوم»
بين تمتمة بالدعاء بالرحمة ودموع لم تجف، تمر الدقائق والساعات والسنوات على مقابر البساتين، هنا يرقد عبدالحليم حافظ، شادية، حسين رياض، فريد الأطرش، فردوس حسن، تحية كاريوكا، أم كلثوم، وآخرهم رجاء الجداوى.

تلك الأسماء تتردد بقوة بين اللحظة والأخرى على لسان الموجودين بمقابر البساتين التابعة لمنطقة السيدة عائشة بداية من شارع التونسى وصولاً إلى ممر الرحمة بمنطقة الإمام الشافعى، متبادلين بينهم حكايات أشهر المقابر.
«الوطن» أجرت زيارات لمقابر مشاهير للوقوف على حالها، لكن بخلاف الحالة المزرية لمدفن الفنانة الراحلة رجاء الجداوى، فإن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن ثمة حياة حقيقية داخل هذه المقابر، يعيشها حراسها والقائمون على رعايتها، استمعنا إلى حكاياتهم المليئة بالونس والوصايا قبل أن يطوى النسيان أصحابها.

مقبرة الشيخ عبدالباسط: هنا يسكت «صوت السماء» فلا تسمع إلا همساً
خوف ورغبة فى عدم الحديث من الحراس الموجودين حول ضريح الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الراحل عام 1988 يغلف أجواء المكان؛ فبمجرد سماعهم شخصاً يتساءل عن تفاصيل المدفن وزواره، يهرب أحدهم من المكان ويعلو صوت الآخر اعتراضاً على أى سؤال.
أحد سكان المقابر: الحراس يسمحون لمحبيه بالدعاء وقراءة الفاتحة
رغبة حراس المقابر فى عدم الحديث، تأتى بناء على طلب عائلة «عبدالصمد»، صاحب الحنجرة الذهبية؛ حيث أكد نور محمد، أحد سكان مقابر منطقة البساتين، أن أهل الشيخ لا يفضلون الاقتراب من المكان أو تصويره، متابعاً: «دايماً الحراس بيخلوا الناس ومحبى الشيخ يقروا ليه الفاتحة ويدعوا ليه لكن بيرفضوا يتكلموا مع حد».

ضريح الشيخ «عبدالباسط» صاحب لقب «صوت السماء»، مظهره الواضح سواء من المساحة الواسعة والطراز الحديث المحاط بالأشجار، يبرز مدى العناية والاهتمام به.
وأكد السكان الموجودون بالقرب من مدفن الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، أول نقيب لقراء القرآن الكريم، لـ«الوطن» أن أسرته تحرص على الوجود أسبوعياً بالمكان فى ذكرى رحيله، الذى يوافق نهاية شهر نوفمبر كل عام.
خلال الشهر قبل الماضى، سافرت عائلة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، إلى أرمنت بمحافظة الأقصر للاحتفال بالذكرى الـ32 لرحيل صاحب الحنجرة الذهبية، وسط التزامهم بالإجراءات الاحترازية من ارتداء الكمامات والتباعد؛ إذ كان شكل الاحتفال دائراً حول عقد خاتمة للقرآن الكريم على روحه.

فى الجهة المقابلة لضريح الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، تظهر مقبرة يحيط بها الصمت بشكل كبير ولا يظهر بجانبها حارس أو أى شخص، وهى مدفن الفنان حسين رياض، المعروف بأبو السينما المصرية، والراحل فى ستينات القرن الماضى بأزمة قلبية أثناء تصويره آخر أعماله الفنية.
والهدوء والصمت المحيط بالمقبرة لا يعنى أن أيادى الإهمال تسيطر على المكان، فالوضع العام يظهر الحالة الجيدة للحوش وكأنه بيت مبنى تعلوه لافتة مضمونها «هنا مدفن عائلة الأستاذ حسين رياض»، وأوضح عم سيد، أحد تُربية شارع التونسى بمقابر البساتين، أن عائلته تحرص على إحياء ذكراه بالوجود فى شهر يوليو من كل عام.

«الجداوى وكاريوكا»: فرَّقهما الفن أحياء.. فاجتمعتا فى مدفن واحد
أكثر من نصف قرن قضاها رجل ستينى بجوار مدافن أشهر النجوم المجتمعة معاً فى مكان واحد، وارثاً من أجداده مهنة تكريم الإنسان للدار الآخرة ما بين تكفين وتغسيل ودفن، بجانب مسئوليته عن مدافن عدة بينها المقبرة الخاصة بعائلة الفنانة الراحلة رجاء الجداوى، والموجودة على ناصية شارع طويل يملأه الصخب تزامناً مع أعمال المنشآت المرتبطة بالكوبرى التابع لمحور الحضارات بمنطقة مقابر البساتين، الذى أثر على حال مدفن الفنانة الراحلة.
حمادة فاضل، أشهر التُربية بمنطقة البساتين، والمسئول عن مدافن كل من عائلة الفنانة رجاء الجداوى والفنان فريد الأطرش والفنانة فردوس محمد، حكى لـ«الوطن» تفاصيل الوداع الأخير للفنانة رجاء الجداوى لمقبرتها قبل 20 يوماً من إصابتها بفيروس كورونا المستجد الذى على أثره توفيت فى 5 يوليو الماضى عن عمر ناهز 82 عاماً، بجانب حديثه حول الحالة المزرية التى وصلت إليها مقبرتها حالياً فضلاً عن التجديد اللاحق بها.
وداع «الجداوى» الأخير لذويها المدفونين تحت التراب، كان عبارة عن خطوات هادئة تبعها تمتمة السلام على الراحلين من موتاها ومعارفها؛ وبمجرد وصولها إلى المكان حرصت على التأكد من تجديد المكان وترميمه ودفع كل الأموال المتعلقة به، دون دراية لما يلحق به عقب رحيلها من مخلفات وركام بل تكسير نتجت عنه فتحة كبير ضخمة بالجهة اليمنى من المدفن؛ ليؤكد حمادة فاضل، المسئول عن مدفن الفنانة الراحلة، أن الفتحة ظهرت قبل 3 أسابيع وسيعود الحال إلى ما كان عليه بمجرد الانتهاء من الإصلاحات المرتبطة بالشارع الخارجى المقابل لإنشاءات الكوبرى».

وبعيداً عن حالة المدفن المزرية، فبمجرد أن يعلم المارة من الموجودين بالمنطقة مكان مقبرة الفنانة الراحلة ودفنها بجوار خالتها الفنانة تحية كاريوكا الراحلة عن عالمنا عام 1999، يتذكرون القطيعة التى كانت بينهما فى الحياة لسنوات بسبب رفض الأخيرة عمل ابنة أختها بالفن وما شاءه القدر بالتجمع فى قبر واحد.
وبخلاف تذكر تفاصيل الحياة بين الجداوى وكاريوكا، يحرص من يعلمهما على الدعاء لها وقراءة الفاتحة وتلاوة القرآن، كونها كانت دائمة الوجود لزيارة الأموات من عائلتها والترحم عليها والصلاة بمسجد السيدة نفيسة وتوزيع صدقات على أهل الخير، بحسب حارس مقبرتها.

مدفن «فريد» على حطة الإيد منذ وفاته: كأنه متحف
سور حديدى يلتف حول مبنى كبير، يتوسطه سياج أخضر اللون تليه بوابة حديدية ضخمة، تعد الفاصل بين مدفن عائلة الأطرش والشارع الرئيسى الموجود بمنطقة مقابر البساتين، قبلها بخطوات أشجار وزهور عدة، فضلاً عن توافر لافتة عالية حاملة جملة «هنا مدفن فريد الأطرش»، وعند الوقوف أمام المقبرة الفخمة، السهل الوصول إليها، يتضح الأشخاص المدفونون بالمكان، وهم المتوفى إلى رحمة مولاه الأمير فؤاد بك الأطرش، والمتوفى إلى رحمة مولاه الموسيقار فريد الأطرش، والمتوفية إلى رحمة مولاها الأميرة آمال الأطرش، والفنانة أسمهان.

و«أسمهان»، تعد أولى عائلة الأطرش التى دفنت داخل مقابر البساتين، وذلك عام 1944، بعدما توفيت بحادث أليم أثناء سفرها إلى منطقة رأس البر التابعة لمحافظة دمياط؛ لتلقى مصرعها عن عمر ناهز 32 عاماً، ليلحقها بعد سنوات عدة، شقيقها الموسيقار الكبير فريد الأطرش، وذلك فى 26 ديسمبر عام 1974، أما عن آخر من دُفن بالمكان فهو الأخ الأكبر فؤاد، وذلك عام 1998، برفقة زوجته وجيهة الأطرش.
ورغم مرور نحو 22 عاماً على دفن آخر فرد بمقبرة عائلة الأطرش؛ فإن المكان تحاوطه يد العناية والتطوير، عاماً يلى الآخر، حسب ما قاله حمادة فاضل، التربى الستينى، والمسئول عن المكان، لافتاً لـ«الوطن» إلى أن آخر التجديدات بالمدفن كان العام الماضى ويحوى المدفن بداخله الكثير من الصور للراحلين، بجانب قصيدة فى رثاء ملك العود.
ورغم مرور سنوات عدة على رحيل عائلة الأطرش، إلا أن أنفاس محبيهم من دول الوطن العربى، تحيط بالمكان، خاصة زوار دول المغرب وتونس وسوريا؛ إذ جميعهم يحرصون على زيارة الضريح باستمرار، وعلى الأخص فى ذكرى رحيل الموسيقار فريد الأطرش المتزامن يوم 26 ديسمبر من كل عام، بجانب إحياء نقابة الموسيقيين والفنانين ذكراه، عن طريق الوجود أمام المقبرة بالكثير من باقات الزهور، فضلاً عن الدخول أمام المدفن للدعاء له هو وأشقائه.
«فاطمة» لا تزال تتذكر جنازة «ملك العود»: ضمت الآلاف من محبيه
«فى آخر الشهر الماضى ناس كتير كانت موجودة والصحافة كمان رغم انتشار فيروس كورونا».. بهذه الكلمات تحدثت فاطمة أحمد، واحدة من سكان مقابر البساتين، عن إحياء ذكرى وفاة الموسيقار فريد الأطرش، لافتة إلى أنها حتى الآن ما زالت تتذكر جنازة ملك العود التى ضمت الآلاف من محبيه بالوطن العربى وطوقتها قوات الأمن المركزى، خلال فترة السبعينات من القرن الماضى، مردّدة أنها قرأت من قبل عن إصرار ملك العود على الدفن بالقاهرة بجوار شقيقته الراحلة الفنانة أسمهان.

حكايات حول مقبرة «العندليب»: الجميع «حافظ» الوصية
أشجار عالية متراصة بعناية تحيط بمبنى ضخم ألوانه زاهية بين الأصفر واللبنى والبنى، مصمم بفخامة شديدة، ومحفورة أعلاه جملة تتضمن «مدفن المرحوم الفنان عبدالحليم حافظ وأسرته».. اشتراه العندليب بماله الخاص قبل وفاته بمنطقة مقابر البساتين، لكن الوقت لم يمهله لاستكمال البناء؛ لتهتم به عائلته حرصاً على وصيته مقيمة كل عام تجديدات سنوية.
ما يحدث حول مقبرة العندليب الأسمر، رواه أحد التُّرَبية بشارع التونسى بمنطقة مقابر البساتين -طلب عدم ذكر اسمه- موضحاً أنه فى شهر مارس من كل عام توجد عائلة عبدالحليم حافظ لإحياء ذكراه والدعاء له بجانب توافد العديد من محبيه من المغرب وتونس، متابعاً خلال حديثه مع «الوطن»: «ما يتداول بمواقع التواصل الاجتماعى حول الحكايات الغريبة بمقابر المشاهير غير صحيح، ففى النهاية الجميع سواسية كلنا مصيرنا التراب».
ومن بين الحكايات الوهمية المتداولة عبر مواقع التواصل، صدور أصوات وعويل من داخل قبر العندليب الأسمر، وهذا ما نفاه تُربى مقابر البساتين، مؤكداً أنه غير صحيح على الإطلاق.

وزيارة عائلة الراحل عبدالحليم حافظ لمدفنه فى يوم رحيله أمر يفعله بعض الأشخاص لذويهم من أجل الدعاء لهم، بحسب تُربى شارع التونسى، لافتاً إلى أن ما يتغير فى حالة العندليب الأسمر، الذى رحل عام 1977، هو حرص عائلته على حماية مدفنهم وتجديده المستمر، فضلاً عن حرص بعض محبيه بالوطن العربى على الوجود لإحياء ذكراه لكن انتشار فيروس كورونا حال دون حضورهم.
ومن أمام مقبرة العندليب وجد عدد من أطفال سكان المقابر للهو واللعب أمام مقبرته، وبسؤالهم عن مكان مدفن الراحلة «شادية»، رددوا معرفتهم به رغم أن لا أحد يعلم مكانه بسهولة نظراً لكونه يحمل اسم لقب العائلة «مدفن أسرة المرحوم أحمد كمال الدين شاكر».

مدفن «شادية» يبعد عدة أمتار عن مدفن حليم
ومثلما تجمع العندليب الأسمر ودلوعة السينما المصرية بالعديد من الأفلام والحفلات فى دار الدنيا، وُجد مدفنهما بالقرب من بعضهما؛ إذ بينهما مسافة صغيرة فى الشارع المقابل، لكن ما يختلف هو حرص عائلة فاطمة أحمد شاكر، الاسم الحقيقى للفنانة شادية، التى رحلت عن عالمنا فى نوفمبر عام 2017، على عدم الاقتراب من مدفنهم الخاص، عن طريق غلق الباب بحديد أسود، تحيطه بعض الأشجار الخضراء اللافتة والبارزة.
أسرة «العزبى» حريصة على زيارته فى ذكرى رحيله
ويوجد بعد أمتار من مقبرة الراحلة شادية، مدفن الفنان والمغنى الراحل محمد العزبى، الذى توفى فى فبراير عام 2013؛ إذ يحرص نجله على الوجود باستمرار وزيارته، خاصة فى ذكراه السنوية، بحسب ما قاله أحد حراس المقابر، نور أحمد، خلال حديثه لـ«الوطن».
«سامية» تعيش مع «حليم ورجاء وفريد»: «مافوّتش جنازة فنان ولا مشهور من 46 سنة»
وجه بشوش تعلوه الابتسامة عكس الملامح المحيطة بالمكان، فهى امرأة خمسينية تعيش على أرصفة منطقة مقابر البساتين، مرتدية جلبابها الأسود، فى محاولة لجذب المزيد من الزبائن، لشراء ما تعرضه من منتجات فخارية لجأت إليها من أجل المساعدة على المعيشة، وما إن تفتح حواراً معها حتى تجدها تتحدث عن نشأتها بالمنطقة ومعايشة جنازات أشهر نجوم الزمن الجميل، بداية من ملك العود الموسيقار فريد الأطرش قبل 46 عاماً، وحتى وداع الفنانة الراحلة رجاء الجداوى، فى يوليو الماضى.
سامية محمد، تسكن أحد أحواش المدافن بمنطقة مقابر البساتين التابعة لحى السيدة عائشة، فهى مسئولة عن الحفاظ عليه هى وأسرتها بعدما تناقلت لها المهنة عبر الأجداد، لم تخف يوماً من الوجود به، مؤكدة لـ«الوطن» أنها طوال حياتها لم تشهد أمراً غريباً بالمقابر، فكل ما يثار حول حكايات الموتى الغريبة بمقابر المشاهير غير صحيح.

مشيت فى جنازة «عبدالحليم».. وودعت «كاريوكا وأم كلثوم»
وبالعودة إلى مرحلة الطفولة، تتذكر السيدة الخمسينية وقت جنازة ملك العود فريد الأطرش وما رأته لأول مرة من الآلاف الذين حرصوا على وداعه، حيث كان عمرها وقتها 7 سنوات فقط، لافتة إلى أن الرحيل الذى لم تنسه قط من ذاكرتها هو وداع عبدالحليم حافظ فى عام 1977، أى بعد 3 سنوات من وفاة «الأطرش».
«مشيت فى جنازة عبدالحليم حافظ وكنت باعيط»، هكذا استرجعت «سامية»، ذاكرتها حول رحيل العندليب الأسمر الذى شهد وداعه ملايين الجماهير بالوطن العربى، متابعة أنها خلال وجودها بالمقابر شهدت الكثير من جنازات المشاهير من تحية كاريوكا وفردوس حسن وكوكب الشرق أم كلثوم وغيرهم من الوزراء، وآخر وداع حضرته هو جنازة الفنانة رجاء الجداوى.
تعليقات الفيسبوك