«فاترينا» صغيرة الحجم لا تتجاوز الثلاثة أرفف، أمام مدخل إحدى العمارات العتيقة بالدقي، امتلأت بكتب متنوعة، بين عربية وأجنبية تلبي اهتمامات الجميع، تحولت إلى مشروع ثقافي أثري غير مسبوق.
تقوم فكرة المشروع على مبادلة الكتب، رافعة شعار «خذ كتاب وضع كتاب» فيتبادل الجمهور الثقافة، وتظل المكتبة محتفظة طوال الوقت بكتب، يجد فيها المارة ومحبي القراءة تسلية لأوقات الانتظار أو الاستعارة، دون التقيد بمكان محدد.
أمام مدخل عمارة 4، بشارع لطفي حسونة قرب كورنيش النيل، يوجد محل صغير لبيع إكسسوار الهواتف المحمولة، يعود تاريخه إلى الستينيات، كان في بدايته مخصصا للبقالة، لكن وحيد السيد، صاحبه، غير نشاطه بعد أن ورثه عن والده، ليصبح «بازار» سياحي، تماشيا مع طبيعة المنطقة الراقية التي يسكنها عدد لا بأس به من الأجانب، ومع ركود السياحة، اضطر وحيد لتغيير نشاطه للمرة الثالثة ليخصصه لبيع إكسسوارات الهواتف المحمولة، السلعة الأكثر رواجا في عصر أصبحت التكنولوجيا ركيزته الأساسية.
يجلس «العم وحيد» صاحب الـ50 عاما، بجانب المكتبة التي هي في الأصل جزء من محله، وكانت قبل 5 سنوات مخصصة لعرض الأنتيكات، وقد تبرع به للمبادرة التثقيفية، حيث يقضى بها معظم يومه، إذ يأتي في العاشرة صباحا ويغادر 12 مساء.
وأثناء متابعته لحركة البيع والشراء، يمضي أوقات فراغة في الاطلاع على الكتب، «لو لقيت فيها كتب استهوتني بقراها وأنا قاعد»، ويتابع الكتب الجديدة التي يتبادلها الجمهور، وتارة أخرى يجد نفسه مضطرا للرد على استفسارات المارة، الذين في الغالب ما يطلبون كتاب معين.
ويوضح العم وحيد، أن الهدف من المكتبة أن يتعامل معها الناس بحرية ويحافظون عليها، لافتا إلى أنها أحدثت رد فعل خلال فترة بسيطة فالكثيرون من ساكني الشارع أو المارة يستفيدون منها.

وخلف فاترينة العم وحيد، هناك قصة أخرى، بطلتها مي المهدي، إذ إنها صاحبة مبادرة مكتبة الشارع، التي جاءتها خلال فترة حظر التجوال، التي فرضتها الحكومة مع انتشار فيروس كورونا الشتاء الماضي، وفكرت في إنشاء مشروعها الثقافي البسيط قائلة لـ«الوطن»، «في الوقت ده ما كناش بنعمل حاجة فكنت بقرا كتير، وجات لي فكرة إني أعمل المكتبة».
وتؤكد أن الخطة دخلت حيز التنفيذ، عندما أطلعت بواب العمارة على ما تريد، فدلها على «الفاترينة الفارغة» المملوكة لصاحب محل الموبايلات الذي لم يتردد وتبرع لها به دون مقابل ليكون مساهما في هذا المشروع الثقافي.

البواب والمكوجى بدأوا يقروا
ودعمت أسرة مي، المكتبة فكان أول مجموعة كتب وضعت فيها مهداة منهم، وتعاون الجميع من أجل تنفيذ الفكرة، فقام المكوجي بتنظيفها بنفسه وإعدادها لعرض الكتب، وتولى «عم محمد» البواب، مهمة تسلم الكتب من المهتمين، وكان لهما نصيب كبير من الاستفادة بهذا، حيث تقول مي، «المكتبة خلقت حالة ثقافية في الشارع.. عم محمد البواب كان أكتر واحد بياخد منها كتب يقراها، والكهربائي مرة قالي خدت منها 4 كتب».
وهكذا خرجت المكتبة للنور ووجدت حفاوة من السكان والأجانب الذين بادروا بتزويدها بكتب أجنبية، حيث تؤكد مي، «كل يومين ألاقيها اتغيرت.. كتب راحت وكتب جات ومش بتفضى"، دون أن يحرسها أحد أو يراقبها، موضحة أنها استفادت بالكتب الأجنبية التي وجدتها فيها.

ولم تكن مبادرة مي، صاحبة الـ33 عاما، التي كانت تعمل بإحدى الشركات التكنولوجيا خارج البلاد، وتتفرغ حاليا لدراسة علم النفس بجامعة القاهرة، الأولى من نوعها، فقد سبقتها مبادرة أخرى لمكتبتين بشارع عماد الدين بوسط البلد، لكنها لم تستمر طويلا فسرعان ما تفرغت من الكتب وأصبحت مجرد «دولاب» على أول الشارع وآخره، لكن مي، لا تتوقع أن تأول مكتبتها إلى ما آلت إليه سابقتيها، نظرا للفارق الكبير بين المنطقتين «شارع عماد الدين منطقة تجارية زحمة، لكن الشارع هنا منطقة سكنية هادية»، موضحة أنها مازالت على حالتها منذ 7 أشهر.

ومن الأشياء التي تؤكد على استمرا عمل المكتية، أن صاحبتها مي، بدأت تسوق لفكرة مكتبها عبر «فيسبوك» وفي أوساط المهتمين بالثقافة، حتى لا تقتصر الاستفادة على شارعها فقط، فتفاعل كثيرون مع المبادرة «الناس كانت بتبعت لى تقول لي خدت كتاب كذا وحطيت كذا»، وتسعى لأن تكون مبادرة مكتبة الشارع نموذجا في المناطق السكنية والمستشفيات والمؤسسات الحكومية بحيث تصبح اتجاه عام تسأل عنه المحليات والناس.

ويدعم محمد ممدوح فايق، مفتش آثار، ومحب للقراء والاطلاع، تجربة مكتبة الشارع ويرى أن وجودها شيء مميز، لكونها منشرة في كثير من دول العالم في محطات الانتظار وعربات المترو، «عشاق القراءة بيفرحوا بيها»، لكنه يرى أن الغالبية لا تهتم بهذه المبادرات، وتتعامل معها بطريقة عبسية، مستشهدا بتجربة مكتبتي وسط البلد، «الناس بتاخد الكتب ومش بترجعها.. وده للأسف حصل في مكتبات ممر الألفي لحد ما صاحبهم سحبهم بعد ما فضيت من الكتب وإزازها اتكسر».




تعليقات الفيسبوك