فى خلسة تسلل فيروس كورونا إلى أجسادهم الصغيرة، كانوا يقضون ساعات يومهم فى اللعب والجرى و«التنطيط»، يملأون بيوتهم صراخاً وضحكاً وضجراً، فجأة هدأ البيت وسكن الجسد وتصاعدت الأنفاس، أعراض غريبة لاحظها ذووهم، فهرعوا بهم إلى المستشفى، ليكتشفوا المفاجأة: «نتيجة تحليل كورونا إيجابية».
مع وجود فيروس كورونا يتغير عالم الطفل، البيت على اتساعه يصبح غرفة منعزلة، ومفردات حياته اليومية تتحول من لعبة يلهو بها وقطة تسليه، إلى أدوية وكانيولا وأحياناً جهاز بخار أو أسطوانة أكسجين لتنظيم عملية التنفس، ورغم ذلك يتحدى الصغار الفيروس الدخيل، يهاجمونه بكل ما يملكون من قوة، وفى النهاية ينجحون فيما يفشل فيه الكبار.
فى السطور التالية قصص صغار تعافوا من الفيروس، نجوا من الوقوع فى فخ الوباء، الذى لا يرحم صغيراً ولا كبيراً.
مشاعر مختلطة بين الرعب والقلق ورهبة المكوث فى غرفة مغلقة، تنتاب كندة محمد، 6 سنوات، التى أصيبت بالفيروس التاجى بعد مخالطة والدتها المصابة، بين يوم وليلة سرق الفيروس طفولتها وأوقات مرحها ولعبها مع شقيقها، افتقدت الحضن الأسرى ولم يعد لها سوى تلك الغرفة المنعزلة بين الرسم والألوان لتدعم نفسها وتقوى عزيمتها على محاربة الفيروس.
بُعدها عن والديها وشقيقها الأصغر أصابها بحزن وكآبة، لكنها مضطرة إلى ذلك حفاظاً على صحة باقى أفراد الأسرة: «من أول انتشار الفيروس كنت بتابع الأخبار وبابا وماما عرفونى كل حاجة عن الفيروس وإنه له فترة حضانة، ولو أى حد اتصاب به لازم يتعزل ويبعد عن الناس ويلبس الماسك، وده اللى بعمله دلوقتى، قاعدة فى أوضتى ولابسة الكمامة وأنا لوحدى بقلعها عشان أقدر أتنفس، بس بابا وأخويا مش بيسيبونى لوحدى عشان نفسيتى، وماما هى اللى منعزلة لوحدها عشان هى مصابة وأنا اتعديت منها»، تكسر «كندة» خوفها بمشاهدة أفلام الكارتون، وتصفّح مواقع الإنترنت، وكذلك الرسم والتلوين.
«أكتر حاجة مضايقانى إننا بقالنا 3 شهور محبوسين واتحرمنا من الشارع والخروج والمصايف والنوادى، ودلوقتى مش عارفة أقعد مع أسرتى زى الأول ولا نتفرج على التليفزيون مع بعض بس بابا وأخويا الصغير بيدعمونى نفسياً وبيضحكونى ويقولوا لى نُكت، وأخويا بيهزر معاى عشان أضحك وده بيقوينى أكتر إنى أخف من الفيروس وأرجع وسطهم تانى»، قالتها «كندة»، التى عرفت رغم صغرها معنى تحمُّل المسئولية والابتعاد عن أسرتها حتى لا تكون سبباً فى انتقال العدوى إليهم: «اتعلمت كمان إن الرسم علاج روحانى».
"مانويالا".. عيّطت كتير وسكت لما جابولى شيكولاتة
عاشت تجربة صعبة، تفوق سنوات عمرها الـ5، فمنذ إصابتها بفيروس كورونا فى مارس الماضى، وهى تعانى من آلام، ذاقت الوحدة والغربة داخل غرفتها فى الحجر الصحى بمستشفى قها بمحافظة القليوبية، تحاول التنفيس عن روحها بالانشغال بألعابها وتصفح مواقع الأطفال الإلكترونية.
مانويالا هلال، أصيبت بالعدوى الفيروسية من والدها الذى عاد من عمله بمدينة مرسى علم فى منتصف مارس الماضى، ورغم خلفيتها المحدودة عن الفيروس، فإنها أصيبت بالقلق والذعر، بعد أن علمت بإيجابية تحاليلها: «كنت خايفة قوى ومكنتش عايزة أبعد عن بابا وماما واطّمنت شوية لما خدونا وعزلونا أنا وماما فى مستشفى واحدة، لكن عيطت على بابا، وكنت خايفة ما شفهوش تاني»، كانت «مانويالا» تتعب كثيراً أثناء تلقى جرعات الدواء بـ«الكانيولا»، والجلوس وحدها بغرفة العزل، لكن كل أوجاعها كانت تزول، بمجرد تعامل الأطباء والممرضات معها بلطف ومداعباتها دوماً حتى لا تشعر بالذعر: «الممرضات كانوا بيجيبولى لى شيكولاتة وشيبسى وبسكويت ولعب عشان كنت بعيط كتير ولما بابا كان بيوحشنى وهو معزول فى مستشفى تانية بعيد عننا كنت بكلمه على الموبايل وأحياناً فيديو كول».

تجربة مختلفة ومؤلمة علّمت «مانويالا» كثيراً وأكسبتها خبرة فى الحفاظ على صحتها وحياة المحيطين بها: «بقيت لما أخرج مع بابا بره البيت، أرجع أغسل إيدى وبمشى والكحول فى إيدى وأعقم نفسى طول الوقت، ولما بابا يشترى لنا حاجة لازم أغسل الأكياس، وماما أول حد يفهمنى يعنى إيه الفيروس وبييجى لما نقرب أو نلمس حد ولازم نلبس الكمامة على طول وإحنا بره البيت»، قادتها التجربة أيضاً لتكون صاحبة حكايات ثرية تقصها على أصدقائها وأقرانها الصغار، حتى يأخذوا حذرهم من الفيروس.
"محمد ومؤمن ومعتز ومهاب": كنا مرعوبين وفى نفس الوقت مش فاهمين حاجة
لم يدركوا حينما أصيبوا بالفيروس معنى كلمة وباء، لكنهم أصبحوا يعلمون كل شىء عنه فور عزلهم لأكثر من 20 يوماً داخل مستشفى العزل ببلطيم فى محافظة كفر الشيخ، تعافوا وخرجوا جميعاً وعادوا لمنزلهم، لكنهم ما زالوا يتذكرون كواليس الحياة داخل المستشفى، يحاولون تقديم النصائح لأقرانهم للوقاية من الفيروس الغامض، الذى قلب حياتهم رأساً على عقب.

محمد السيد، 17 عاماً، وأشقاؤه «مؤمن» 14 عاماً، و«معتز» 10 أعوام، و«مهاب» 10 أشهر، أصيبوا جميعاً بالفيروس بعد العدوى من والديهم، لكنهم خرجوا جميعاً من التجربة القاسية وهم أشد حرصاً: «التجربة كانت قاسية، ما كُناش فاهمين حاجة، واللى كان مطمّنا وجود والدتنا معانا»، مؤكداً أنهم كانوا يشعرون بحالة من الرعب هوّنها دعم الأصدقاء والأقارب: «كان بيجيلنا رسايل دعم كتير».

قضى الأشقاء الثلاثة الكبار وقتهم بين الصلاة وقراءة القرآن وتلقى العلاج: «كنا عايزين الوقت يعدى عشان نخف ونخرج ونرجع لحياتنا الطبيعية، رغم إنهم كانوا بيعاملونا كويس جداً والممرضات بيلعبوا مع إخواتى الصغيرين». يحكى الطفل «مؤمن»، 14 عاماً، أنه بعد أن عاد لحياته الطبيعية يحاول قضاء وقته باللعب داخل منزله، ويخشى نزول الشارع حتى لا يصاب مرة أخرى: «كانت أيام صعبة، مش عايزها تتكرر تانى عشان كده باحافظ على صحتى وباغسل إيدى على طول».
من هذه التجربة خرجت الأم «شيماء.ع.م»، 34 عاماً، بدروس مهمة، تعلمت كيف تحافظ أكثر على أطفالها، وتقدم لهم أكلات تقوى مناعتهم: «التجربة كانت قاسية علينا كلنا».

وشرحت الأم كيف أصيب جميع أفراد أسرتها: «شقيقة زوجى توفيت، استقبلنا المعزين من أقاربنا، لكن بعدها بيوم شعر زوجى بتعب فى جسمه، ذهبنا للكثير من الأطباء، كل طبيب بتشخيص مختلف، لكن بدأت الأعراض تظهر عليه، جرى تحويله لمستشفى حميات دكرنس، وهناك تأكدت إيجابية تحاليله، وبفحصنا تأكدت أيضاً إيجابية تحاليلنا جميعاً».
تروى الأم أنه فى العشرة أيام الأوائل من مايو الماضى، بدأت رحلة نقلهم إلى مستشفى العزل بتمى الأمديد وبلطيم، وتحسنت حالتهم وخرجوا جميعاً، لكنهم ما زالوا يعيشون فى عزل اختيارى.
"ميرنا".. كنت باسمع الكلام علشان أخف بسرعة
جاءت من إيطاليا برفقة أسرتها فى ظل انتشار الفيروس فى أوروبا قبل إغلاق المجال الجوى المصرى، لتنتظر مصيراً صعباً فى ظل الأزمة، فبعد الحصول على عينة للتأكد من إصابتها وأسرتها، ثبتت إصابة الأسرة بالكامل ولكن بدون ظهور أعراض وجرى نقلهم إلى مستشفيات العزل.
ميرنا وليد علام، 5 سنوات، من أبناء محافظة المنوفية، طفلة الأسرة المدللة، التى قضت 17 يوماً فى مستشفى النجيلة للعزل الصحى بمطروح، تحكى عن هذه الأيام بقولها: «بابا كان معايا فى المستشفى وكنا كويسين، مكنتش تعبانة، بس بابا قال لى إن التعب ده مش بيتشاف، وبعد ما خفينا خرجت أنا وبابا ورجعت ألعب مع صحابى مرة تانية».
ملت «ميرنا» من فترة الحجر الصحى، وكانت دائماً تردد كلمات: «عايزة أروح لماما، وعايزة أروح البيت»، لكن والدها كان يقدر على إقناعها بالصبر لحين الشفاء ومن ثم العودة إلى المنزل: «كنت بقضى اليوم كله فى اللعب بالتابلت، كنت محرومة من أصحابى بس لما خرجت روحت لهم».

تؤكد أنها كانت ملتزمة بالعلاج وتسمع نصائح والدها: «مكنتش تعبانة وكنت باخد العلاج وبسمع كلام بابا والدكتورة فى المستشفى كانت بتجيبلى هدايا وتورتة وشيكولاتة، وكانوا بيلعبوا معايا كل يوم».
"عمر".. زعلان علشان أنا اللى عديت بابا وماما
بعد يوم دراسى شاق، عاد الطفل عمر شاكر، 8 سنوات، إلى المنزل وهو يشكو من «همدان» وارتفاع فى درجة الحرارة.
تعاملت الأم أمل محمد فوزى، مع العرض بعفوية واعتبرتها «نزلة برد»، لكن بعد الذهاب إلى طبيب أطفال، و«روشتة» من أدوية خفض الحرارة لا تُجدى نفعاً، بدأ الخوف يتسرّب إلى نفسها، تأكد بعد أن أخبرها البعض أن ابنها أصيب بـ«كورونا».
«اتعاملت مع حالته بكورس مكثف من المضادات الحيوية، إلى جانب السوائل الدافية، والأكل الصحى المسلوق»، كلمات «أمل»، 39 عاماً، من منطقة المرج، عن إصابة ابنها «عمر» الذى استغرق 8 أيام للشفاء من الفيروس، بعدها انتقلت العدوى إليها وزوجها.

28 يوماً بعد الشفاء، لم يغادر فيها «عمر» المنزل نهائياً، يذكر تلك المدة فيبدو فى نبرات صوته الطفولية، مزيج من الحزن والشقاوة: «زعلت لأنى كنت السبب فى إصابة ماما، هى فضلت تعبانة كتير هى وبابا، وحتى لما بابا خف على طول، ماما أخدت وقت أكتر، ومن بعد ما خفينا كلنا فى البيت، ماما مابقتش تخرّجنى زى الأول، هى بتقول إنها خايفة عليا، بس أنا نفسى ألعب وأخرج زى زمان».
يبدو النضج المبكر فى صوت «عمر» وهو يتحدث عن الفيروس: «بعد ما خفيت ماما قعدت معايا وفهمتنى إيه هو فيروس كورونا، وقالت لى إننا لازم نغسل إيدينا على طول، ونهتم بنضافة كل حاجة».
تعليقات الفيسبوك