قافلة طبية مجانية، قد تظنها لأول وهلة لبني الإنسان، لكن في مرحلة عالية من الإنسانية وتقدير الروح أيًا كانت، حيث خصصت إحدى السيدات الأجانب، عاشقة لمصر، يوما من كل أسبوع، تتجول بين أرجاء منطقة أبوصير بالجيزة، تقدم الرعاية الطبية لحيوانات الفلاحين مجانا، بعد أن ساءها استغلال الأطباء، وبعد أن اقتربت أكثر من حياة أهل المنطقة عندما انتقلت للعيش بها منذ ما يزيد على عشرين عامًا، فتعرفت على ضيق حالهم، ولمست أهمية الحيوان لكل منهم.
الحيوان ثروتهم وتحمل الخير لأصاحبها، وتعد مصدر الرزق الوحيد لهم، وعلاجهم ليس نوعًا من الرفاهية، قد يقترض الفلاح لعلاجه أو يدخر أكثر مما ينفقه على صحته هو شخصيا لمداواة جراحة وآلامه، فيحلمه تارة بين يديه وتارة على عربة يؤجرها خصيصا، ويذهب لعيادة أحد الأطباء، أو أقرب وحدة صحية، متكلفا بذلك ما يزيد عن 100 جنيه، للخروج من منطقة أبو صير، حيث يقيم، إلى وحدة شبرامنت أو البنوات، إضافة إلى تكلفة العلاج، أو أن يكون الخيار الثاني نفوق حمارة أو ماعزة أو أحد الأبقار، فتكون الخسارة فادحة لأهل البيت.
وتحركت "الوطن" من مزرعة الصراط، مع ماريان ستراود Maryanne Stroud، الكندية الجنسية والأمريكية المولد، بين الحقول، وحتى الوصول إلى وجهة اليوم، المحددة سلفًا، والمعروفة باسم "أبوصير - الجامع"، ففي كل ثلاثاء تزور السيدة السبعينية منطقة من الثلاثة "الجامع أو العش أو فجنون"، وتنظم عيادة مجانية، بشكل أصبح معتادًا لأهل المنطقة التي سكنتها بعد أن جاءت مع زوجها المصري، وقررت أن لا تعود.
قافلة طبية على عربة كارو وأخرى تروسيكل وكل ثلاثاء تزور منطقة
في سيارتين، أحدهما "كارو خشبية" يجرها حمار من المزرعة، وأخرى "تروسيكل"، تنتقل ماريان وبعض من عمال المزرعة، يصحبهم الطبيب البيطري، وإحدى أصدقاء ماريان من الأجانب، في طقس أسبوعي اعتادوه، يتجهزون له في اليوم السابق، فيقوم العمال بفحص مخزون الأدوية، وكتابة قائمة بما ينقصهم.
وأصبحوا نتيجة العمل بالمكان لسنوات يعرفون مواسم كل مرض وبالتالي نوعية الأدوية وأدوات الفحص والجراحة التي يحتاجونها في قوافلهم، وفي العربة الكارو، التي اعتلاها صابر وهاني وعبدالله، وُضعت صناديق من الأدوية، فيما يقود تامر السيارة الأخرى، ينقل ماريان وصديقتها التي توثق الحالات بكاميرا لا تفارقها إضافة إلى الطبيبة.
بين الحقول، في طريق زراعي ضيق، يعلو ويهبط، تسير العربتين، يقابلهم أهالي القرية بحفاوة، منهم من يؤكد أنه سيقابلهم عند وجهتهم، ومنهم من يحتاج لاستشارة علاجية بسيطة، فإن لزم الأمر يُطلب منه موافاتهم وما دون ذلك، يقدومون له العلاج في الحال، يتبعونه بنصائح وطرق الاستخدام من أجل صحة أفضل للحيوانات لديهم.
محمد: جيت أشوف علاج للحمار والنعجة لما ابن عمي عالج عندهم الحمام ومش بياخدوا فلوس
هزيلا يمتطي حمارا هزيلا هو الآخر، بوجه يبدو عليه الحزن والألم، بدأ محمد سيد، 15 سنه، يصف حال نعجته الذي من شدة إعيائها ترقد فوق الحمار أمام صاحبها في سكون وصمت تام، فمنذ 3 أسابيع سقط الجنين منها، وبدأت ينزف بشكل متواصل، ثم امتنعت عن الطعام.
"وقال محمد: "النعجة قاطعة الأكل وطلعها خُراج، ابن عمي قالي روح عند عزبة الخواجاية أي يوم أو عند الجامع يوم الثلاث أصله عالج عندهم الحمام قبل كدة".
الطبيبة البيطرية: ماريان تنفق على القوافل من حسابها الخاص لذلك ليس لدينا جميع الأجهزة
وبدأت الدكتورة ريم سراج، طبيبة المزرعة البيطرية، بفحص النعجة، لتقرر أنه يجب أن تخضع لفحص بجهاز السونار، ولأنه سعره عالي، وتكاليف العلاج تتحملها صاحبة المزرعة وحدها وتتكفل بها، فهو غير متوفر لديهم.
وقالت الدكتورة: "ماريان اللي بتصرف على القوافل والسونار غالي، هكتب له يعمل سونار، لأن كدة الرحم احتمال كبير يكون فيه خراج كبير ولازم نتطمن الأول ولما يرجع هياخد العلاج منا على حسب التشخيص".
عمال المزرعة: تعلمنا الإسعافات الأولية على يد أطباء المزرعة
هاني سلامة وعبد الله عزوز، الشابين الثلاثينين، واللذان يعملان في المزرعة منذ بضعة أعوام، ساعدا محمد ونعجته في الهبوط عن الحمار، ليشرعا في فحص وتنظيف حافره، "أغلب مشاكل الحمير بتيجي من إن محدش بينضف الحافر ولا بيقصه بانتظام، الموضوع بسيط بس ممكن يعمل مشكلة كبيرة ويخلي الحمار مايمشيش" بحسب هاني.
وفي الوقت ذاته أحضر عبدالله قناع لوجه الحمار بعد أن نظفت الطبيبة جروحه، ونصحت صاحبه بأن ينظفه بالماء يوميا كما ينظف نفسه، التقط عبدالله طرف الحديث ليقول أنه ورفاقه في المزرعة، تعلموا بعض الإسعافات والعلاجات من طبيب المزرعة وأحيانا كانت صاحبة المزرعة تستضيف أطباء من الخارج.
تحمل حفيدها وتسير على مهل، وما إن وصلت أم يوسف شعبان إلى الطبيبة حتى بدأت تحكي عن ما أصاب الطيور والمواشي بمنزلها، لتدرك الثانية أن الأمر يحتاج لزيارة منزلية، فالعجل غير قادر على الحركة كي تحضره مالكته، وبين الشوارع، اتخذت ريم ومساعديها عبدالله وهاني طريقهما إلى منزل أم يوسف، وبين حين وآخر تستفيض ريم في معرفة المزيد عن الحيوانات لدى أم يوسف، حتى وصلنا لمنزل متوسط الحال، يقف أمامه حمارين وجاموسة.
في الوقت الذي دلفت أم يوسف إلى المنزل تحضر العجل وأحد الفراخ كي تفحصهما الطبيبة، كما هو متفق، بدأت ريم وعبد الله وهاني بفحص الحيوانات أمام المنزل، رغم أن أم يوسف لم تتحدث عن أي ألم أصابهم، "الحيوانات ماتقدرش تعبر عن وجعها واللي شغال في رعايتهم لازم يحط نفسه مكانهم ورغم إنها ماتكملتش عن الحمار إلا إننا لقينا عنده مشكلة وهنديها العلاج" وفقا لـ"ريم".
ما إن ظهرت السيدة تجر العجل الصغير بدأ عبدالله في قياس حرارته، في الوقت الذي فحصت الطبيبة وهاني جلده وجسده كله، كما فحصت الفرخة في يد صاحبتها، ليطلبا منها أن تعود معهم إلى مقر القافلة لأن التشخيص يحتاج لبعض الأدوية التي لم يحضراها معهم إلى منزلها، حيث قالت أم يوسف: "دايما بلجأ لهم وبيلحقوني ولو العلاج فيه حقنة ومش هعرف أعملها بروح لهم المزرعة كل يوم وعمرهم ما يخذلوني وكمان بينصحوني اتعامل أزاي مع الحاجة علشان الوقاية".
علي مهنا: كفاية ست مش مصرية بتساعدنا كدة.. بستنجد بيهم حتى لو مفيش قافلة ويلحقوني
"ناس 10 على 10 وكفاية ست مش مصرية وبتعمل كدة وحست بينا، جيت لهم مرة البقرة صدرها وارم وبتحلب دم ولحقوني من غير ولا مليم رغم إني روحت المزرعة إجازتها" بهذه الكلمات بدأ علي مهنا حديثه لـ"الوطن" قادما من الحقل الذي يعمل به مزارعا، يبحث عن علاج لحماره الذي امتلأ قراض وحشرات ورغم رعايته بالأكل إلا أن حجمه في تناقص ويبدو على وجهه جروح، تختفي إحداها فتظهر الأخرى.
وأضاف: "أخدت العلاج مجاني منهم بدل ما كان دكتور الوحدة أو الخاص هيكلفني أقل حاجة 200 جنيه أو البهايم تموت وهي أهم حاجة عندنا وأنا على قد حالي وبشتغل شغلتين علشان أقضي عيالي".
أحد رواد االقافلة: إحنا مزارعين على قد حالنا ولو حاجة تعبت مانقدرش نكلف كشف وعلاج غالي والحيوان ثروتنا وتعبه خسارة كبيرة
في طريق العودة إلى المزرعة، لا يتسنى للعربة السير بضعة أمتار حتى تتوقف للرد على استشارة أو إعطاء علاج لشخص لم تمكنه ظروفه من المجيء، ولا يسع أعضاء القافلة التأخر عليهم أو مغادرتهم دون فائدة، وخصوصا أنهم يقبلون يملأهم العشم والمودة في أن يجدوا ضالتهم، فبملامح يعلوها الأمل أشارت أم محمد حمدي لنا للتوقف، لتصف ما آلت إليه الجروح بأحد العجول لدى والدها، وعلى الفور جرى تسليمها العلاج المناسب.
وقالت: "قاعدة مستنياهم علشان فيه ظروف في البيت ماقدرتش أروح لهم وكتر خيرهم"، وبحسب أم محمد التي عادت بذاكرتها لعامٍ مضى، حين كادت تفقد خِراف كانت قد انتوت أن يكونوا أضحية العيد.
وأضافت: "روحت لهم وأدوني أدوية كتير والخروفين بقوا الله أكبر عليهم حلوين خالص".
الخروج للقافلة عمل اختياري للعاملين في مزرعة ماريان
وتستمر القافلة الأسبوعية ساعتين أو ثلاثة، على حسب الإقبال، فيما تستقبل المزرعة الأهالي لمساعدتهم في أي وقت، حتى أن عمال المزرعة اعتادوا الأمر، فصاروا يفتحون بيوتهم في غير أوقات عملهم لمساعدة أهالي قريتهم في أي وقت، فلكل منهم قصة كان هو بطلها في إنقاذ بهائم من يستنجدون به، ومن السيدة الكندية انتقلت إليهم روح التطوع، فهم غير مجبورين للخروج في القوافل.
وقال تامر أحد العاملين بالمرزعة: "اللي عايز يروح بمزاجه بس إحنا حبينا اللي بنعمله ومحدش مجبور"، مشيرا إلى أن السيدة الكندية حرصت على تدريبه مع طبيب لمدة 6 شهور قبل أن تبدأ في تدشين العيادة المجانية.
ويحكي تامر عن واقعة سبقت عمل عبدالله عزوز معهم في المزرعة، حين اصابت الحمى القلاعية البهائم لديه منذ سنوات عندما كان المرض في بداياته، وعزف الأطباء عن علاجها، مرددين أن مصيرها الموت لا محالة، فقام تامر ورفاقه على رأسهم ماريان بالتواصل مع أطباء يترددون على المزرعة، وبالفعل جرى علاج المرض.
وحدث قائلا: "كانت الحمى لسة في البداية ومحدش يعرف عنها حاجة والحمد لله عدت وقررت أشتغل معاهم في المزرعة والقوافل".
تقديم الفحص والعلاج المجاني ليس فقط ما يرمون إليه، ففي الوقت الذي يقوم عبد الله وهاني وتامر ومعهم الطبيبة البيطرية بفحص البهائم والأغنام، وتقديم العلاج والنصائح المناسبة، تمسك ماريان بسجلاتها الورقية، وتبدأ في تدوين بيانات المترددين على عيادتها المتنقلة، بحيث يصبح لديها قاعدة بيانات باسم صاحب الحيوانات والمرض والأعداد، لتعكف ريم سراج على مراجعتها وتحليلها، "أحيانا بنلاقي تفشي مرض فجأة فنبدأ نتواصل مع زمايلي والمديرية علشان نقيْم الوضع "بحسب ريم.
وتحكي الطبيبة أنه في وقت سابق لاحظت انتشار مرض التهاب الجلد العقدي، وبالتواصل مع المديرية تبين أنه ظهر في عدة مناطق وأنه بدء توفير تحصيناته لديهم، فتواصلت مع أهل المنطقة وإرشادهم، كما أن طريقة الاحتفاظ بالبيانات تساعدها وماريان في حصر التقدم الذي تحرزه مبادرة الأخيرة في تقديم رعاية صحية جيدة لمصدر رزق من عاشت بينهم، وأصبحوا يعتبروها واحدة منهم.
تعليقات الفيسبوك