«عماد» حفيد مؤسس أول محل لتصنيع الطرابيش فى مصر
أمام زخم الحياة ومتطلبات العصر الحديث، اندثرت بعض المهن المصرية التى كانت رائجة قديماً، لكن بعضاً منها ظل موجوداً على استحياء، وكأنه سقط من عجلة الزمن. «مكوجى رِجل» جار عليه الزمن يجلس وحيداً فى دكان صغير وإلى جواره مكواة وزنها 25 كيلوجراماً، «داية» فى إحدى قرى مصر النائية تفتخر بأنها تلقفت بين يديها ذكوراً وإناثاً كانوا بركة حياتها، «خاطبة» تنافس مكاتب الزواج الأونلاين بصور عرسان وعرائس (4 فى 6)، و«سقا» يجوب الموالد ليروى ظمأ العطشانين، وصانع طرابيش ما زال يعمل من أجل إثبات أن مهن العصر القديم لم ولن تنتهى. صراع من أجل البقاء.. لسان حال أصحاب هذه المهن، التى قضوا فيها سنوات طويلة ويصعب عليهم أن يتوقفوا عن العمل بحكم الزمن، وفى حين استسلم البعض لعجزه عن الصمود، واجه البعض الآخر بالقدرة على الاستمرار.
صانع الطرابيش: "بعت واحد للملك فاروق بـ2 جنيه دهب"
جدران تحمل رائحة عتيقة تُشعرك بمجرد دخولك إلى المكان وكأنك داخل قاعة أثرية، فرغم مرور 207 أعوام على إنشاء هذا المحل الكبير داخل حى الغورية فى منطقة الحسين، فإنه ما زال يحمل بين ثناياه عظمة ما عاصره من حقب زمنية قديمة شاهدة على تاريخ أسرة محمد على.
محل «الطرابيشى» شاهد على مراحل مختلفة من تاريخ مصر الحديث، وما زال صامداً وسط العشرات من تغيرات الزمن الطارئة، يحاول صاحبه وحفيد مؤسسه «عماد الطرابيشى» الصراع من أجل البقاء فى مهنة آبائه وأجداده وهى «صناعة الطربوش». المحل أسسه أحمد محمد أحمد الطرابيشى عام 1812، تاركاً إرثاً كبيراً لأولاده وأحفاده وصولاً إلى «عماد»، المسئول عن المكان حالياً: «إحنا أقدم ناس صنعنا الطرابيش فى مصر، وما زلنا لحد دلوقتى بنصنعه، بس طبعاً إنتاجنا مبقاش زى زمان خالص». يحكى «عماد» عن تفاصيل هذه الصناعة العتيقة: «أصلها تركى، دخلت مصر مع أسرة محمد على، إحنا صنعنا جميع طرابيش الأسرة المالكة لحد الملك فاروق».
باختلاف الأزمنة تنوعت خامات تصنيع الطربوش، فكان يتم استيراد أغلب خاماته من الخارج، نظراً لأهميته وشعبيته بين كافة الطوائف، لكن لم يعد «عماد» مكترثاً باستيراد خامات ثمينة حالياً بسبب ندرة بيعه: «زمان كنا بنجيب الخامات من كذا دولة، خصوصاً طربوش الملك، كنا بنشترى خاماته من سويسرا، بناء على طلبه، وكان سعرها عالى جداً، إنما دلوقتى صناعته بقت مقتصرة على الأوردرات اللى بتيجى لينا من السينما أو التليفزيون، ودلوقتى شغالين فى تصنيع عمم وقبعات مسلسل سيف الله خالد بن الوليد اللى هيتعرض فى رمضان الجاى».
حسب رواية «عماد» كانت الطرابيش قديماً تباع بسعر 35 قرشاً، وأغلى طربوش بِيع للملك فاروق بجنيهين ذهب، أما الآن فيتراوح سعر الطربوش بين 5 و7 جنيهات.
السقا: يروى ظمأ العطشانين ويكشف "الملبوسين"
عباءة خضراء وعمة تحمل اللون ذاته، هو زى نصر عبدالحميد، الذى لا يتغير، يسير حاملاً على ظهره «قِربة» مهلهلة مصنوعة من جلد الماعز لحفظ المياه والحفاظ على برودتها، ليبدأ رحلته فى التنقل من مسجد لآخر ومن مولد لآخر لتوزيع المياه داخل بيوت الله، وكان آخر وجهته مولد الحسين.

«بقالى 25 سنة فى المهنة دى عمرى ما مليت ولا تعبت منها»، قالها «نصر»، صاحب الـ43 عاماً، عن حبه لمهنته. قرر «نصر» العمل فى هذه المهنة فى عام 1994، دون ملل أو تعب، كانت أسيوط مسقط رأسه أولى وجهاته فى توزيع المياه بالمنازل: «كنت بلف على البيوت وأوزع عليهم الميه حسب حاجة كل بيت، بس طبعاً كان ليا أجر بسيط جداً، لحد ما قررت أعمل ده لوجه الله».
بعد سنوات من اللف على البيوت، قرر أن يسافر محافظات كثيرة خصوصاً فى الموالد، ليقوم بمهمة توزيع المياه: «بوزع ميه على الناس جوا المساجد وآخد الثواب، كل جمعة بروح مسجد شكل، لحد ما بقيت لازم أحضر كل مولد أياً كان مكانه فين، ودى أكتر حاجة بتبسطنى وبتخلينى راضى عن نفسى».

داخل أكواب معدنية صغيرة أو «طاسة الخضة»، يوزع «نصر» المياه: «بصبها من القربة جوا الكوبايات المعدنية الصغيرة، ومعظم الوقت بحطها فى طاسة الخضة ودى بتكون طاسة نحاس عليها آيات قرآنية، وأوقات فيه ناس لما بتكون جواها روح أو حاجة مش طبيعية أول ما بتشرب من الطاسة دى بتترعش وترميها، ووقتها باقدر أعرف إن الشخص ده مش طبيعى».
الخاطبة: "يا بخت من وفَّق راسين فى الحلال"
10 أعوام فى مجال البحث عن شريك الحياة المناسب، أو كما يقول المصريون بـ«توفق راسين فى الحلال»، قضت «دعاء» تلك الفترة فى العمل بمجال البحث عن العريس أو العروس المناسبة من أجل الطرف الآخر، معتمدة فى ذلك على سمعتها الطيبة.
دعاء عبدالرحيم، 35 عاماً، رغم صغر سنها، فإنها قررت ممارسة مهنة الخاطبة من أجل عمل الخير والسعى فى إتمام علاقات زواجات بطرق مشروعة وناجحة: «بحب أوفق راسين فى الحلال وأساعد الشخص إنه يلاقى شريك حياة مناسب لظروفه الاجتماعية من جميع النواحى، وأهو بساعد فى منع حاجات كتيرة الناس بتلجأ ليها عشان تتجوز وخصوصاً الشباب».

30 علاقة زواج ناجحة هى رصيد «دعاء» خلال الـ10 أعوام، استطاعت خلالها كسب سمعة طيبة فى مجال البحث عن شريك الحياة: «أصل مهنتنا دى سمعة، ولو الواحدة خسرتها يبقى مفيش أكل عيش».
كانت مهنة «الخاطبة» رائجة قديماً: «زمان كان فيه خير والناس كانت بتثق فى بعضها، ماكانش فيه كدب ولا نصب، وكانت الخاطبة دى من أساسيات الشارع المصرى، إنما دلوقتى إحنا بنتعب عشان نوفق شخصين كويسين مع بعض وقليل لما الموضوع بيكمل للآخر كويس».
لم يعد العمل كما كان فى السابق حسب «دعاء»: «دلوقتى باخد وقت طويل عشان أدور على واحد كويس لبنت محترمة ويكون مناسب ليها.
داية: كنت مضطرة أساعد الستات اللى بيتكسفوا يتكشفوا على رجالة
خجلاً من الكشف أمام طبيب نساء، كانت تحرص الكثير من السيدات خاصة فى الجنوب، على الخضوع لعملية الولادة على يد «داية»، ورغم التطور التكنولوجى الكبير فى مجال الطب وانتشار الوعى الثقافى بشكل أكبر، إلا أنه ما زالت هناك سيدات يخضعن للولادة بتلك الطريقة البدائية.
تحكى «أم على»، داية فى إحدى قرى سوهاج: «اشتغلت فى المهنة دى 19 سنة، وشفت فيها حالات صعبة كتيرة، بس كنت باضطر أكمّل فيها عشان خاطر أساعد الستات البسيطة دى وما أزعلهمش، وبرضه بحس بفرحة كبيرة لما البيبى بيتولد وأشيله على إيدى للمرة الأولى».
تعمل «أم على»، 48 عاماً، فى مجال التمريض، حيث قررت مساعدة الكثيرات من نساء قريتها فى إجراء عمليات الولادة، موضحة أنها واجهت العديد من المخاطر والصعوبات التى تعرضت لها فى بعض الحالات أثناء الولادة: «فيه حالات كان ضغطها بيوطى مرة واحدة، أو الأنيميا بتزيد عندها وكنا بنلحقهم بمعجزة، بس أنا اشتغلت فى المهنة دى عشان أساعد الستات اللى بيتكسفوا يتكشفوا على رجالة».
19 عاماً قضتها الداية «أم على»، فى إجراء المئات من عمليات الولادة مروراً على منازل قرى سوهاج المختلفة، لكنها قررت التوقف عن ممارسة هذه المهنة خوفاً منها على صحة الحالات.
مكوجى رِجل: 52 سنة شغل.. كفاية كده
منذ 52 عاماً، يقف عصمت محمد، فى دكانه الصغير فى حى العباسية، يعمل بمهنته الوحيدة وهى كىّ الملابس بمكواة الرِجل. عام 1965 كان بداية «عم عصمت» فى هذه المهنة الشاقة: «ورثتها عن أبويا وعمرى ما حسيت بالتعب فيها، بس لما كبرت فى السن مابقتش أقدر أشتغل زى الأول لأن المكوة الواحدة وزنها 25 كيلو وبقى صعب عليا أشيلها».

مكواتان يحملهما «عصمت» بالتبادل أثناء كيه الملابس، تحتفظ الواحدة منهما بسخونتها لمدة 20 دقيقة فقط: «أول ما بتبدأ تبرد باشيلها وأبدلها مع التانية اللى على النار وهكذا على مدار اليوم»، وحسب «عصمت» مكواة الرِّجل تقوم بكى أى خامة حتى أجود أنواع الصوف لأنها مصنوعة من حديد زهر، يحتفظ بالسخونة لفترة كبيرة، أما المكواة العادية فلا تعمل على الصوف، وهذا ما يميز تلك المكواة القديمة.

أُطلق على «عصمت» اسم «مكوجى أبيض» وذلك بسبب كيه لجميع أنواع الأقمشة والملابس قديماً وصولاً إلى فساتين الزفاف باختلاف أقمشتها: «القطعة الواحدة زمان كنت باكويها بقرش صاغ لحد ما وصلت دلوقتى لـ2 جنيه». قديماً كان هناك انتشار للمكواة الرِجل: «كان زمان لينا شنة ورنة لأن ماكانش فيه غيرنا ولا كان فيه مكواة البخار والكهرباء والكلام ده كله، إنما دلوقتى خلاص عفا علينا الزمن وماحدش بقى محتاج للمكوة دى وكله بقى يستسهل». من خلال هذه الحرفة البسيطة التى لا يكسب منها كثيراً استطاع «عم عصمت» توفير جميع نفقات منزله وأسرته ومصروفات تعليم أولاده الخمسة.
تعليقات الفيسبوك