بينما نرمي عظام الحيوانات وقشور المكسرات، ونهمل بواقي الأشجار وقطع الأحجار، كان هو يجمعها، يرى بها شيئًا لا يجذب أحدا غيره، يرتبها سويا، ليعود إليها مرة أخرى بعد أمدٍ قريب أو قد يمتد لعقود، صانعا منها إبداعات فنية وأعمال ديكورية أو إكسسوارات وأدوات منزلية.
علوي البطراوي، 75 عامًا، درس "البيولوجي" في كلية المعلمين، فتعلم التحنيط والتشريح ودرس النباتات والحيوانات، فجذبته الطبيعة وجمالها، وظل طوال مدة عمله مدرسا للأحياء بالتربية والتعليم يزور المعارض والمتاحف ويجمع الصدف والودع ويحتفظ بعظام الحيوانات كتلك التي يذبحها كأضحية، ويقتني أحجار وما يفيض به البحر إلى الشاطيء، ليبدأ بعد أن وصل إلى سن المعاش قصة إبداع فني.
يوظف علوي جزء من أحد "قرون" الخروف في عمل سلسلة، أو قطعة من عظام ساقه في شكل زُهرية تحمل ورودا صُنعت أوراقها من بذور النباتات، وقد يبحث أكثر ليجمع اثنين من الودع متماثلين مُشكِّلًا منهما قِرطا عجيب المنظر.

"الهواية بدأت زمان من أيام الكلية كنت بعمل لوح من القش مثلا وبعدها اتعلمت أرابيسك بس الوظيفة خدتني وماكنش فيه وقت قوي، ولما تفرغت بعد المعاش بدأت أشتغل بجد، يعني كنت بجمع أي حاجة أحس إن يجي منها ولحد ما يبقى عندي وقت فاضي استغله"، وذلك بحسب حديث البطرواي لـ"الوطن".
كل مرحلة تفضي إلى أخرى وتؤثر فيها، فـ"علوي" الطفل الذي زار أحد المخارط اليدوية للأرابيسك صنع فيما بعد مخرطة لنفسه نفذ عليها قطع أرابيسك، ثم في وقت لاحق أن تشارك وشقيقه في عمل مخرطة كهربائية أبدعوا من خلالها ألعابا خشبية "لما ظهرت موضة العروسة الخشب جبنا إيد المقشات وعملنا منها عروسة خشب".
ثم عندما بدأت ابنتيه في الالتحاق بالمدارس، أقبل بشغف على كتبهم التي تتحدث عن الفنون اليديوية مثل كتب المجال الصناعي، يتزود منها عن الخامات واستخدام الآلات، وهكذا الحال عندما التحقت إحدى ابنتيه بكلية التربية الفنية، فقد ظل "علوي" يملأ عقله بالكلمات والمعلومات ويجمع مخلفات المنزل ومقتنيات لا تجذب أحدا على الشواطيء وفي الصحاري، حتى جاء وقت التنفيذ الفعلي.

"أيام التدريس كنت بحاول أمارس هواياتي في إني أعيد تشكيل أي حاجة على قد ما وقتي يسمح.. مثلا كنت أنا أو الطلبة أو أي حد يجيبوا لي حاجات تتحنط أو فكنت بعملها وأعمل متاحف في المدارس اللي اشتغلت فيها.. الحمد لله كنت دايما مميز في أي مكان أكون فيه حتى وأنا في ليبيا وأهو دلوقتي استخدمت التحنيط في إني مثلا عملت من فك الأرنب شكل جمالي".
ويروي الرجل السبعيني لـ"الوطن"، عن حبه للرحلات، حيث يرى جمال الطبيعة وإبداعات الخالق مما يجعله يشعر بضيق عندما يرى تصميم غير جيد، "أروح الرحلة أفضل أدور وأجمع حاجات الناس تستغرب في آخر الرحلة منها زي حتة شجر جار عليها الزمن ولا قطعة حجر بركانية بس شكلها لما تتوظف صح هتعمل قطعة فنية طبيعية"، متابعا أنه لديه مقتنيات كان قد جمعها منذ أعوام ولا يزال يبحث لها عن فكرة تظهر جمالها.

"بعد سن الـ60 حياة جميلة بشوف حريتي بعيدا عن روتين الوظيفة اللي لازم نلتزم بيه"، كلمات قالها علوي البطراوي، من منطقة الهرم بالجيزة، بعدما بدأ يمارس شغفه في عمل يدوي يصفه بـ "يحتاج صبر وطولة بال" لكنه يسعده، ما يجعله يشعر بفرحة الإنجاز بعد أن يخرج أي منتج يهديه أو يبتاعه أحد أو قد يفكر بالاحتفاظ به لنفسه إذا كان المجهود المبذول به كبيرا جدا أو أن خاماته غير متوفرة كثيرا.
عُقد من بذور الخروب كانت أولى هدايا البطراوي لـ "ناهد أحمد" في أيام الخطوبة، لتبدأ قصة حب لم تعرف ناهد أنها ستطور إلى أن يصبح بيتها عبارة عن قطع ديكورية يدوية من صنع زوجها لا تقل جمالا ولا تفردا عن هديته الأولى، "كل حاجة بيعملها بتكون مختلفة ومش متكررة، وذلك بحسب حديث ناهد لـ"الوطن".

بين المعارض على قلتها التي يشارك بها زوجها تقف وتشرح لكل من يقف عند منتجاته وتسترسل في توضيح أصل وخامات كل قطعة، بين كأس مكسور أعاد إليه الحياة في شكل جديد، ونجمة بحرية ثعبانية لفظها الشاطئ وأستخدمها علوي في برواز مكتبي، وقطعة من شعاب برجانية قام بتجفيفها وصنع لها رونق جديد، "متفهمة جدا اللي زوجي بيعمله وبحب شغله جدا.. مرة جاب ثعبان يحنطه فضل محتفظ بيه في الفريزر سنتين"، لكنها تجد أن التسويق هو أصعب ما يواجهونه، فالناس ينظرون نظرة أنها مجموعة من الودع تم لصقها معا، يتناسون خطوات الجمع والنظرة الفنية والتنظيف والتجفيف والإخراج الفني.
"دفع الإيجار في المعارض غالي جدا وعلوي مش بيعلي سعر المنتجات علشان بيقول الجنيا غلا والناس بتدي أولوية للحاجات الأساسية في البيت.. يا ريت نقدر الحاجات اليدوية دي"، لتقف ناهد بين معروضات زوجها بأحد المعارض وبنظرة فخر له تختتم حديثها "الشاطر اللي يعمل من الفسيخ شربات وعلوي بيعمل من لا شيء حاجة قيمة.
تعليقات الفيسبوك