الأنوار لا تنقطع عن شوارع العاصمة
«رقص تحية كاريوكا حرام أم حلال؟».. سؤال طرحته مجلة «البوليس» على قرائها عام 1957، منتظرة منهم أن يدلوا بدلوهم فى الموضوع، حيث إن الراقصة الشهيرة طبقاً للتقرير الصحفى تصوم بالنهار وتصلى وتزكى وتؤدى الفرائض، غير أن عملها الفنى يتطلب منها أن ترقص فى الليل، فما هو رأى القراء؟
ومن مجلة «البوليس» إلى مجلة «كل شىء والدنيا» التى نشرت تقريراً تعرض فيه كيف يقضى الفنانون ليالى رمضان، فهناك من يعمل وهناك من يلعب الكونكان، وهناك من يجلس فى حضرة المشايخ وقراء القرآن، وفى نفس المجلة، كان هناك تحقيق صحفى عن تطور الإضاءة فى العاصمة من إحراق الخشب والشمع إلى غاز الاستصباح، وأخيراً الكهرباء التى يذكر التحقيق أنها عمّت وتسببت فى انقراض الفانوس، إلا فى الأحياء الوطنية والقرى.
الأنوار تعلن عن رمضان
جاء فى بيان إذاعة محافظ العاصمة أخيراً:
«.. وعلاوة على ما تقدم (أى إطلاق المدافع والإذاعة بواسطة الأقسام) فقد أصدرت وزارة الأوقاف منشوراً عاماً بإنارة مئذنة جامع محمد على بالقلعة بمجرد وصول النبأ الرسمى برؤية هلال رمضان إليها، ومتى أُنيرت تُنار باقى المآذن فى أنحاء المدينة، فيتم بذلك إعلان سكان العاصمة وضواحيها».
والراجح أن عادة الإعلان بالأنوار عن مقدم رمضان وإضاءة المآذن خلال لياليه، نشأت بنشوء المآذن، وكيفما كانت الحال فإن إضاءة المآذن وزيادة النور فى المساجد من المظاهر التى تفرّد بها رمضان عن بقية الشهور العربية، فغدت لياليه أنواراً لامعة تبعث فى النفوس البشر والبهجة.
ثلاثة عهود من الإضاءة
وقد تطورت الإضاءة فى رمضان وغيره فى عهود ثلاثة:
أولها: عهد إحراق الخشب والمواد الدهنية كالزيت والشمع.
والثانى: عهد البترول وغاز الاستصباح.
والثالث: عهد الكهرباء.
وقد اتخذت فى كل عهد أنواع من المصابيح والأجهزة تناسب طبيعة المادة المستعملة فى الإضاءة، فاختُرع المشعل للخشب، والقناديل للزيت، والمنائر (الشمعدانات) والفوانيس للشمع، و«اللمبات» للبترول، و«الكلوبات» لغاز الاستصباح، والبترول الممزوج بالهواء والثريات للكهرباء.
وقد ارتقت صناعة القناديل والفوانيس فى مصر فى القرن الماضى إلى مرتبة الفنون الزخرفية، وزُينت بها المساجد المنيفة والإيوانات والأبهاء والصالات فى القصور والدور الفخمة على نحو ما نرى فى دار الآثار العربية. وإلى جانب هذه الصناعة نشأت صناعتان: صناعة الشمع، وصناعة الزجاج. وكانت المشاعل تُصنع عند الحدادين وتباع منها الألوف، بل إنها كانت تؤجّر كما تؤجّر الصواوين والكراسى من محال «الفراشة»، وأكثر ما كانت تؤجّر للحفلات والأعراس ومواكب الحجاج. فلما استُعمل الغاز اختفت القناديل من القصور وحلت محلها «اللمبة»، وهى مصباح الغاز، وقضت الكهرباء على النجف المضاء بالشمع فى الأفراح والحفلات، وقضت «الكلوبات» على المشاعل، وبقيت صناعة الفوانيس بعد استخدام البترول دهراً طويلاً حتى عمت الكهرباء، فانقرض الفانوس إلا فى الأحياء الوطنية والقرى.
فانوس رمضان ينتصر
لكن مصباحاً وطنياً واحداً لم يتأثر بالكهرباء ولا بالبترول قبل الكهرباء، وهو «فانوس رمضان».. نعم لقد أوشك هذا الفانوس أن ينهزم أمام التفرنج واطراح عاداتنا وتقاليدنا بدعوى أننا عصريون. ولكن شكراً لنهضتنا، فلقد نبّهت الغافلين إلى أن روح العصر الحديث لا تتنافى مع التقاليد والعادات. فهذه بريطانيا لا تزال مواكبها تسير بالملابس وبالهيئة التى كانت تسير عليها منذ أيام شكسبير وإليصابات، وهذه غيرها تحافظ على تقاليدها، ولا يجرؤ إنسان على اتهام بريطانيا وغيرها بأنها تتعلق بالرجعية وتعود القهقرى.
وكان من أثر تلك النهضة أن أقبلت طبقاتنا الراقية على فانوس رمضان يتحف به الآباء أولادهم وبناتهم، ولذا أُدخلت عليه تحسينات بديعة.
ومن يدرى لعل هيئاتنا الصناعية تُعنى بفانوس رمضان وتبتكر له أشكالاً أنيقة، ولعل أنصار الصناعات القومية يؤلفون شركة لصنع تحف منها فوانيس رمضان.. فإذا فعلوا وأحسنوا الإعلان عن مصنوعاتهم، فليثقوا من بيع عشرات الألوف من الفوانيس. ففى بلاد اليونان وإيطاليا أعياد ومواسم جرت التقاليد بأن يحمل الأولاد فيها فوانيس من ورق وطبولاً، ثم يغنون وينشدون على إيقاعها، فما لنا لا نشجع الصغار على حمل فوانيس رمضان وإنشاد أغنية «إيوحة» وسواها؟
البذل فى سبيل النور
وقد دلت الإحصاءات على أن مقطوعية مصر من البترول تزيد فى رمضان فى القرى والأحياء الوطنية بالمدن، كما أن مقطوعية الكهرباء تزيد فى الأحياء الراقية. ولا غرابة فى هذا ما دام معظم السكان يحيون ليالى رمضان بالأنوار والسهرات، فالمآذن كلها مضاءة، والأسواق مشتعلة بالنور، والمصانع مضيئة لإعداد المطلوب منها للعيد من كسوة وأحذية وحلوى، ثم إن العمل فيها يفتر بالنهار بسبب الصيام فيعوضونه بالسهر. ومصالح الحكومة وقصور جلالة الملك تضاء واجهاتها فى رمضان. وتحتفل القهوات برمضان فتتزين وتتبهرج بالأنوار حتى الفجر. وتنشط المسارح فى رمضان بوجه خاص وينشط غيرها من أماكن اللهو، ويجوس خلال المدينة باعة جوالون يضيئون عرباتهم، وتشتد حركة النقل ليلاً بحكم الظروف فيتضاعف ما تستهلكه من الوقود والنور وسهر محال المآكل والفنادق والبقالين والجزارين واللبانين إلى السحور.. وحتى شركة الترام تترك المصابيح الكهربائية فى شارع الخليج وسواه من الشوارع المظلمة مضاءة طوال ليالى رمضان، كما تتأخر قطاراتها إلى ساعة متأخرة من الليل وكلها نور فى نور.
فرحم الله عهد الفانوس، إذ كنت ترى السيدات يسرن فى ضوئه، وكان أعيان الرجال يتبخترون وأمامهم حملة الفوانيس.
وحيا الله رمضان فهو نهار كله، نهار لا تختفى شمسه، ولكن يضىء منها فى كل مصباح قبس، وتتوزع فى القرى والدساكر شظايا منيرة.
كل شىء والدنيا 1935
تعليقات الفيسبوك