فناء فسيح محاط بسور حديدى محكم، تحول إلى مكان خال يخيم عليه الهدوء، باستثناء عدد قليل من الزوار يتجولون حوله، وحراسه الذين جلسوا بداخله، استعدادا لمراسم تحنيط الجثة.
الحزن هو الطابع الذى سيطر على المكان بعد أن سكنته القطط عقب رحيل زعميته الأولى وصاحبة السيادة "زيرى" آخر وحيد قرن أبيض في حديقة حيوان الجيزة بمصر وبالشرق الأوسط أيضا، والتي عمَّرت بيتها وفتحته ما يزيد على نصف قرن، لا صوت يعلوا فوق صوتها، لكنها لم تدم لها الحياة كغيرها، فقد جاء الوقت الذى ترحل فيه وتترك مكانها شاغرا لأحد آخر يملؤه، أو يعوض وجودها.
قاسية شرسة معتزة بذاتها كونها أنثى الخرتيت الوحيدة فى الحديقة، فلمدة 52 عاما مضت لم يجرؤ الحراس على اقتحام بيت "زيزى" الموجود فى منطقة النعام خلف "حمامات" الحديقة، حتى لمجرد إطعامها أو علاجها وجهاً لوجه، فضلاً عن تنظيف مكانها،: "لو شوية فروع شجر وقعوا، بنحرقهم من بره، عشان صعب ندخل وهي صاحية".
لكن اليوم تبدل الحال، وتجمع حراسها وجلسوا فوق حوض الماء الذى كانت ترتوى منه وقلوبهم تفيض حزناً، وعيونهم تكاد تدمع على فراق صاحبة الدار التى تركتهم ورحلت عنه أمس، وهى فى الـ54 من عمرها، بعد أن كانت وجهة أبحاث ودراسات للكثير من المهتمين.
تعاقب عليها الكثير والكثير من الحراس لكنها لم تتغير، وشيخوختها لم تؤثر على قوة شخصيتها، وإن كانت أنهكتها بدنيا، فلا يوجد بها عَضَل تأخذ عن طريقه "الحقن"، والأدوية التى كانت تأخذها فى شبابها "عن بعد" باستخدا الأسهم والمسدسات، ومع ذلك حافظت على شراستها التى اعتاد عليها الجميع، الكل يخضع لأوامرها، فلا حارس يسطيع التعامل معها دون اللجواء إلى قانونها الخاص، المتمثل فى المشاعر المتبادلة بينهما وتعودهما على بعض.
"مفيش حد يقدر يدخل عليها غير حارسها الخاص لو كان مين".. كلمات قالها "عم محمد فتحي عبد الفضيل" آخر حراس "زيزي" والذي ظل يحرسها لمدة 10 سنوات متتالية، اعتنى بها في الأكل والشراب وبادلها الحب والاحترام لترضى عليه ويكسب ودها، نظراً لكونها من أندر الحيوانات فى الحديقة، وأكبرهم سنا.
واوضح لـ"الوطن" أنه كان يوليها عناية خاصة، واعتاد على التعامل مع شخصيتها القوية.
مرضها لم يكن يوماً ما نقطة ضعف بالنسبة لها، فقد فرضت سيطرتها على الجميع منذ أن جاءت حديقة الحيوان وهى فى السنة الـ2 من عمرها، فلا طبيب يجرؤ على معالجتها، لذا كان يتم وضع الدواء لها فى العلف أو داخل الجزر والبطاطس والبطاطا، لقوتها، وإيهامها بأنها ليست مريضة.
وأضاف حارس "زيزي": "صعب أى حد يقرب منها، ومع ذلك لو كبرت فى السن واتسابت فى أى غابة، الحيوانات تفترسها".
وما بين انشغال عم "عبد الفضيل" وتنقله فى منطقة النعام بحديقة الحيوان، ومساعدته لزملائه فى تجهيزات التحنيط، يقف أمام بيت زيزى يخطف من أمامه "نظرة أسى" ولو لثوانٍ، يرجع بذاكرته لليوم الذى تسلم حراستها من حارس سابق قام بتدريبه على التعامل معها، إلى مرحلة الحزن الشديد التى سيطرت عليه، بعد أن فؤجى بها ملقاة على الأرض وقد فارقت الحياة.
واستطرد: "آخر مرة حطيت لها الأكل يوم التلات بالليل، وجيت الأربع الصبح أفتح لها عشان تغير جو وسط الخضرة، لقيتها ميتة".
وبنبرة حزينة يشير "عبد الفضيل" بيده إلى بيت "زيزي" ويتذكر أيامه معها،: "كنت بتمم عليها طول الوقت، وأحط لها الجزر والسبانخ والعلف المصنع والبرسيم الحجازي والبطاطا، وكل الأكل اللى كانت بتحبه".
وواصل حديثه: "كانت غالية علينا أوى، وموتها قطع بيا وبكل حراس منطقة النعام".
وعلى الرغم من أن تعامل "زيزى" مع حارسها كان يشوبه نوع من الصعوبة، إلا أنه يقول: "زيزى دى عِشرة، وعمرها ما تهون عليا، خدمتها وتَمَر فيها تعبي".
تعليقات الفيسبوك