عام 1994 كانت عائلة أوروجوانية كبيرة مكونة من أب وأم و7 أطفال تحزم حقائبها استعدادا لقطع 500 كيلومتر في اتجاه الجنوب، والهجرة للأبد من مدينة "سالتو" إلى العاصمة "مونتيفيديو" تاركين بلدتهم الصغيرة التي لم يعد بها فرص عمل تؤمن طعام الأفواه التسعة.
رضخ الجميع لأمر الفقر عدا الابن الأوسط العنيد ذو الـ 7 سنوات، لم يستطع أحد إقناعه فبقي في كنف جدته يمارس ما لا يعرف شيئا سواه، اللعب حافي القدمين على الحشائش.. وعلى مدار 20 عاما مر الطفل بفترات انهيار وصعود درامي منحت اسمه الشهرة في جميع أنحاء العالم، لويس ألبرتو سواريز.. مهاجم برشلونة الأول وأهم لاعب في منتخب بلاده.
بعد شهر، جاءت الأنباء من "مونتيفيديو" بأن الوالد حصل على وظيفة بمصنع "بسكويت" والوالدة صارت عاملة نظافة، الأسرة وجدت العمل الذي تبحث عنه ولا سبيل سوى الانضمام إليهم، سافر بالفعل إلى العاصمة ونجح في تكوين صداقات جديدة لكنه في نفس الوقت كره صخب المدينة بشدة، شعر بأنه افتقد الأمان والبساطة والألفة والراحة منذ غادر "سالتو"، "لم نعد قادرين على ترك الباب مفتوحا ونحن نائمين"، والأهم أن العاصمة حرمته من اللعب حافي القدمين فوق الحشائش، لم يجد "لويس" سوى التأقلم حلا لما حل به، انغمس في ممارسة كرة القدم مع فريق الحي ثم انضم إلى ناشئي نادي "ناسيونال مونتيفيديو"، كاد يشعر بالاستقرار حتى جاءه الزلزال الثاني.. انفصال والديه وهو في سن التاسعة.
"كانت الظروف صعبة للغاية، كنت ألعب كرة القدم لكني لا أستطيع طلب زوج أحذية جديد من والدي أو والدتي"، بعد انفصال والديه في المدينة التي لا يحبها، اختبر الطفل "لويس" شعور الغربة لأول مرة، أحالته الظروف شخصا غاضبا متمردا لا يرضى بشيء، حتى أنه رفض استكمال مشواره وحلمه الكبير بأن يصبح لاعب كرة، رغم طفولته صار شخصا عدميا يقضي يومه في التسكع من دون هدف، وكان قد وصل إلى سن الرابعة عشرة حين قرر النادي طرده بسبب تكاسله الذي دفع دانيل إنريكي، منسق قطاعات الناشئين بالنادي لاتخاذ قرار طرده وإخبار ويلسون بيريز، مدرب الطفل المتمرد بالقرار.
لكن "ويلسون" كان لديه وجهة نظر أخرى، طلب من "إنريكي" منح "سواريز" فرصة أخيرة، ثم ذهب إلى الطفل المتمرد وانتحى به جانبا وأخبره "لويس.. هذه هي فرصتك الأخيرة لتصبح لاعب كرة قدم محترف، لا تخذلني"، ومنذ تلك اللحظة بدأ الطفل في وضع أهدافه أمام عينيه، لكن الفرصة التي منحها "ويلسون" لـ"لويس" لم تكن نقطة التحول في مشواره، حيث مضى عام كامل على ذلك الموقف والأمور تجري بشكل اعتيادي، ما قلب حياته رأسا على عقب بالفعل وأشعل الحماس في قلبه ومنح عينيه اللمعان وحرضه على التوهج هو لقاؤه بـ"صوفيا" حب حياته الأول والوحيد، وزوجته الحالية التي التقاها في سن الخامسة عشرة، بينما هي قد أتمت للتو عامها الثاني عشر.
جعلت الطفلة "صوفيا" الطفل لويس شخصا جديدا، لا أحد يدري كيف لطفلة في هذا العمر أن تدفع طفلا يكبرها بـ3 سنوات نحو هذا النضج المبكر، أقنعته بأن الأمور تسير بشكل سيء في المدرسة وفي الملاعب لأنه لا يأخذها على محمل الجد، وأن عليه أن يتفانى في التدريبات حتى يحقق ما يريد، بفضل "صوفيا" صار "سواريز" كتلة من نشاط تجري على الأرض، لا أحد يقف أمام جموحه ولا مدافع يصمد أمام إصراه، صار مهاجما عصيا على المجابهة، وقد أنهى العام الذي قابل فيه "صوفيا" مسجلا 63 هدفا، أي على بعد هدف واحد فقط من الرقم القياسي لهداف ناشئي "ناسيونال".
من هنا نشأت قصة الحب الأفلاطونية، رأى "سواريز" نفسه شخصا ذا قيمة في عينيها كما رأى تأثيرها الذي لا يصدق بعد أن غمر البؤس حياته، شعر بأن لديه دافع حقيقي، يريد أن يتألق حتى يعود في المساء ليقابلها ويرى عينيها تنطقان بالفخر والإعجاب، كانت هذه هي المرة الأولى التي يسترد فيها "لويس" قلبه الذي تركه في "سالتو".
وتماما كما في الدراما، وبعد أن تخطى عقبة الضائقة المالية وهجر بلدته المحببة إلى قلبه وانفصال والديه وتهديده بالطرد من النادي، كان على البطل/ لويس أن يواجه عقبة جديدة، في الحقيقة كانت واحدة من تلك اللحظات التي ينهزم فيها المرء ويدرك أنه لن ينهض مجددا لأن لا أحد ينتصر بمفرده، جاءت "صوفيا" ذات يوم وأخبرته أن عائلتها ستهاجر إلى إسبانيا.
كان الوقت أضيق من أن يتمادى "سواريز" في صدمته، قرر في نفس اللحظة أنه سيحترف في أوروبا ليعيش إلى جانب محبوبته، رحلت "صوفيا" على وعد اللقاء القريب، ومنذ رحيلها لم يعد "لويس" للكسل أبدا، بذل أقصى ما في وسعه، كان هدفه بالانتقال إلى أوروبا والزواج من "صوفيا" لا يحتمل الفشل، هدف واحد لكنه يساوي حياته كلها، وفي سن الـ 17 لعب مباراته الأولى مع الفريق الأول لـ"ناسيونال"، في ذلك اليوم قال لنفسه "الآن أصبحت على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلمي".
وحين يقترب الحلم بشدة، تصبح أشباح الهزيمة واحتمالات فقدان الحلم مخيفة أكثر من ذي قبل، الهزيمة تعني أن كل ما يبنيه منذ عامين سينهار، وصل "سواريز" من الإصرار والرغبة إلى أنه كان يبكي إذا مرت عدة مباريات دون أن يسجل أهدافا، غاب عن التسجيل 5 مباريات فبكى ليخبره مدربه "مارتن لازارتي": "أنا أؤمن بك وستحقق أحلامك، فقط لا تستمع إلى ما يقال".
نصيحة المدرب/ الحكيم، ومجهودات "سواريز" أتت ثمارها، مر عام لينتقل إلى أوروبا محترفا بنادي "خرونينجن" الهولندي، انتقلت "صوفيا" إلى ذات المدينة نجح أخيرا في أن يعيش ابن الـ 19 عاما إلى جانب ابنة الـ19 عاما في المدينة الهولندية الصغيرة.
لكن الحلم الذي حققه "سواريز" كاد ينهار، في بداياته مع فريقه الهولندي قدم أداءً باهتا جعل إدارة النادي تدرك أنها ارتكبت خطأ جسيما بالتعاقد معه، زاد وزنه بصورة ملحوظة، حتى جاءت مباراة فريقه ضد "فيتيسه آرنهم" ليبدأ رحلة بناء المجد.
وصلت المباراة إلى الدقيقة 80 وفريق "سواريز" متأخر بـ 3 أهداف لهدف، مرت دقيقتان وسجل فريقه من ركلة جزاء، ثم في الدقيقة 90 يسجل يسجل "سواريز" هدف التعادل، قبل أن يقلب الطاولة في الدقيقة 92 ويسجل هدف الفوز، في صباح اليوم التالي كان سكان المدينة يسيرون نحوه مبتهجين بعد أن كان شخصا مجهولا، يطلبون توقيعه على قميص النادي فبدا أن الحياة ابتسمت أخيرا، واصل تألقه مع فريقه لينتقل إلى أكبر أندية الدوري الهولندي "أياكس" ثم تابع رحلة النجاح مع ليفربول ثم برشلونة، حتى صار "سواريز" الذي يعرفه الجميع.

تعليقات الفيسبوك