ربما لم يعطي التاريخ للطبيب الفرنسي كلوت بك، رائد النهضة الطبية الحديثة في مصر حقه ولم يعرف الكثيرون عنه سوي الشارع الذي يحمل اسمه، والذي يبدأ من ميدان رمسيس عند رأس شارع الفجالة (شارع كامل صدقى اليوم) وينتهي ميدان الخازندار عند الطرف الشمالي الغربي لحديقة الأزبكية وفي السطور التالية نتعرف على الطبيب النابغة:
ولد أنطوان بارثلمي كلوت في مدينة غرونوبل بفرنسا في العام 1793 لأسرة فقيرة وعاش فترة طفولة بائسة ونظرا لطموحه فقد عمل صبى حلاق في مارسيليا لتدبير مصاريف الدراسة ودرس الطب والجراحة في مونپيليه ثم بدأ بعد تخرجه في ممارسة مهنة الطب في مارسيليا وفي العام 1825 قرر محمد علي باشا تنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري فعهد لتاجر فرنسي بالبحث عن طبيب ماهر ليتولي هذه المهمة الإستراتيجية حتي وجد ضالته، ووافق كلوت على المجئ لمصر وبدأ مهمته وأثبت كفائته فعينه محمد علي باشا رئيسا لأطباء الجيش المصرى في العام 1830.

ومع توطد علاقته بالباشا واكتساب ثقته قام بإقناعه بتأسيس "مدرسة الطب" التي أصبحت فيما بعد تسمى "قصر العيني" فكان مقرّها الأول في قرية أبو زعبل بمركز الخانكة التابع لمحافظة القليوبية حاليًا واختار مائة طالب للدراسة وعين لهم أطباء من أوروبا إلى لتصبح هذه بداية كلية الطب المصرية.
وكان يدرس فيها فروع الطب المختلفة والتشريح بالإضافة لدراسة اللغة الفرنسية إلى أن تخرج منهم عدد كبير من الأطباء وتم توزيعهم على وحدات الجيش المصري وأخذ عددا آخر للعمل مع المدرسين الفرنسين حيث كانت المحاضرات بالغة الفرنسة فيقوم الطبيب المصرى باعادة المحاضرة بالعربية ومن هنا جاءت كلمة (معيد).
أنعم عليه محمد علي باشا بلقب بك عندما قام هو وتلاميذه بانقاذ 60 ألف طفل من وباء الجدري وذلك بسبب تطبيقه لنظام التطعيم السنوي على الأطفال ولنجاحه أيضا في مقاومة وباء الكوليرا كما بذل جهودًا كبيرة في مقاومة الطاعون وعني بتنظيم المستشفيات ومع استمرار جهوده وإنجازاته عُين رئيس الإدارة الطبية للبلاد وهو منصب يعادل منصب وزير الصحة حاليا.

ومن أهم إنجازاته التي سيذكرها له التاريخ أنه كان صاحب الفضل في إقامة أول تعداد عام للسكان في تاريخ مصر في عام 1848 وبذلك أصبحت لدى السلطات الصحية قاعدة بيانات دقيقة تبني عليها سياساتها الصحية على مستوى القطر كله إذن كان لأول تعداد سكاني مصري أسباب صحية واضحة ومنطقية في زمن كانت الأوبئة تلتهم الأرواح بلا هوادة وسُمي وقتها بـ"تعداد النفوس".

جدير بالذكر أن كلوت بك هو أول من استخدم "البنج" في مصر في العمليات الجراحية الدقيقة وفي عمليات البتر وكان معني أيضا بالصحة الوقائية فكان مهتم جدا بالأحوال الصحية في السجون وكان يبحث بانتظام عن أماكن الاحتجاز في القاهرة والأقاليم فكان يوصي بضرورة فتح طاقات داخل الزنازين لتسهيل التنفس وعدم انتقال العدوي بين المساجين وكان يعترض على تكبيل المساجين بسلاسل حديد في أرجلهم ونجح في تحسين طعام المساجين كما طالب الحكومة بإنشاء سجون آدمية بدلا من تحويل المباني القديمة لسجون كنوع من توفير النفقات.

عاد كلوت بك إلى مارسيليا في العام 1848 بعد أن قدم استقالته من رئاسة مستشفى قصر العيني بعد أن ساد مصر حالة من الإهمال في إدارة مؤسسات الدولة في عهد الخديو عباس حلمي الأول ولكنه عاد إلى مصر عام 1856 في عهد محمد سعيد باشا الذي قرر إعادة افتتاح مدرسة الطب في احتفالية ضخمة وبعد مشوار من العطاء لمصر وشعبها رحل عن عالمنا في العام 1868 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين وذلك في مدينة مارسيليا بفرنسا بعد أن بدأت صحته في التدهور وذلك بعد وفاة زوجته.

له الكثير من الكتب والمؤلفات العلمية مثل كتاب "بواكير الطب الحديث" وهو من أهم المراجع الطبيه وأيضا كتاب "القول الصريح في علم التشريح" كما ألف عن مصر كتاب "لمحة عامة إلى مصر" وهو من أهم الكتب التي تغطي جوانب غير تقليدية عن واقع المجتمع المصري في فترة حكم محمد علي باشا والذي يعد نافذة ممتازة على الأفكار والعادات السائدة في مصر في ذلك الوقت وكيفية تعامل المصريين مع المرحلة الانتقالية في علاقات السلطة والمجتمع التي كانت تمر بها البلاد.

تكريما له سُمي باسمه شارع في مسقط رأسه "جرونوبل" بفرنسا وأيضا بمصر قرر الخديوي إسماعيل تخليد اسم الرجل وذلك عندما فكر "علي باشا مبارك" الوزير المفوض من إسماعيل باشا في إنشاء شارع يربط بين محطة السكة الحديد وشارع محمد علي وأطلق عليه شارع كلوت بك امتنانا لرائد النهضة الطبية الحديثة بمصر والذي ما زال من أشهر شوارع القاهرة والذي ينبض بالحياة مذكرا بفضل الطبيب النابغة.

تعليقات الفيسبوك