مكان بلا سقف ممتلئ عن آخره بأحجار الجرانيت، يتوسّطه 3 «صنايعية» يحمل كل منهم أدواته الخاصة، يمارسون عملهم بجد وتركيز شديدين، تتعالى أصوات طرقات الشاكوش حتى تتفوق على ضجيج المارة وأبواق السيارات، يتوسّطهم الأكبر سناً والأكثر خبرة، منصور محمد، يحمل شاكوشه فى يمينه ومسماره الصلب فى يساره، يدق بكل قوته على حجر الجرانيت المعدّ خصيصاً لـ«الطعمية»، يهيّئه حتى يصلح لاستخدامه فى المطاعم والمحلات، يقف ليستريح قليلاً، يمسح قطرات عرقه المتساقطة على جبينه، يشير بيده إلى المكان من حوله، ليبين أن عدد الأحجار التى أتت من أسوان لتسكن السيدة عائشة، تفوق عدد «الصنايعية» عشرات المرات.. يتنهّد ويقول: «المهنة بتنقرض، مفيش حد بييجى يتعلم، ولا حد غاويها أصلاً»، قضى 27 عاماً بين أحضان الجرانيت، يؤكد أنها مهنة على حافة الانقراض ستنتهى بموجب رحيل مُريديها الحاليين: «كنا زمان 30 صنايعى فى المكان، دلوقتى 3 بالعافية، وأحدث واحد هنا من 5 سنين، مفيش حد بييجى نهائى».
يطلق عليها «المعتقل الحر» الذى أتى إليه بمحض إرادته وغير مسموح له الخروج منه إلا بشهادة وفاته -على حد تعبيره- «عندى 42 سنة مبقاش ينفع أسيبها، خلاص فات الأوان»، يتحدى أى شخص أن يتحمّل شقاء مهنته التى تأخذ أكثر مما تعطى: «مفيش حلاوة من غير نار».
يرافقه اثنان آخران فقط، جميعهم يشكون من خطرها «ياما اتعورت واتأذيت، بس هنعمل إيه مفيش بديل».
ورث «منصور» هذه المهنة الشاقة عن والده وإخوته من عمر 15 عاماً، لم يكن يعلم أنها ستقضى على صحته بالبطىء «وجع فى العضم والضهر والغضروف، ماتعدش»، يأبى أن يعلمها لأولاده «ليه أمرمطهم، كفاية أنا»، له أربعة أولاد، الأكبر فى الصف الثانى الإعدادى والأوسط والثالث فى الابتدائى، وأصغرهم فى الروضة «نفسى أعلمهم ومايشوفوش اللى أنا شوفته».
يذهب إلى الورشة فى السابعة صباحاً ويغادرها مع أذان العصر، يحكى أن كل حجر أو ما يُعرف بـ«حجر الطعمية» يبدأ عمقه من 40 سم وحتى 60 حسب مقاسه «كل المطاعم بتيجى تاخد من هنا، وفيه صيانة للأحجار المستعملة»، مؤكداً أن بدائل الحجر ماكينات ظهرت مؤخراً يمكن استخدامها، لكنها لن تكون فى نفس مستوى الجودة.
تعليقات الفيسبوك